هذا الانقسام العلني بين القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل، يأتي في ظل احتجاجات الشارع الإسرائيلي وضغوط عائلات الرهائن، بينما تدخل وساطات جديدة مثل تركيا إلى خط التفاوض. فما أسباب رفض زامير لخطة الاحتلال؟ وهل تخفي تصريحات نتنياهو محاولة لإلقاء الفشل على الجيش؟
في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز”، أعلن نتنياهو أن إسرائيل تنوي السيطرة على غزة بالكامل، مع تأكيده أنه لا نية للاحتفاظ بالقطاع بعد الحرب، بل تهدف الخطة لإسقاط حكم حماس فقط. لكن هذا الطرح أثار قلقًا دوليًا، حيث نقل موقع “أكسيوس” عن مسؤول أميركي في إدارة ترامب أن واشنطن لا تؤيد ضم أي أجزاء من غزة لإسرائيل، كما أشار مسؤول إسرائيلي إلى رفض أميركي واضح لهذا المسار خلال المحادثات الأخيرة.
زامير: معارضة مهنية أم تحذير من كارثة؟
رئيس الأركان إيال زامير خرج عن صمته، مؤكدًا أنه سيواصل التعبير عن رأيه “بشكل موضوعي ومستقل”، رغم الضغوط. ورأى الخبير الأمني منصور معدي، خلال مداخلته مع برنامج التاسعة على “سكاي نيوز عربية”، أن زامير يدرك خطورة الدخول في “احتلال كامل”، ويحذر من مغبة تحميل الجيش مسؤولية أي فشل سياسي.
وقال معدي في حديث لسكاي نيوز عربية: “رئيس الأركان يشعر بنفسه أنه الأب والأم لكل جندي، وكل مخطوف، وكل مصاب. لذلك عليه أن يحذر من تداعيات العمليات، وإلا فويل له”.
يرى معدي أن حماس أعطت تعليمات واضحة لعناصرها بتصفية الرهائن في حال اقترب الجيش الإسرائيلي منهم. هذه النقطة تجعل رئيس الأركان أكثر حذرًا، لأنه يعتبر مصير الرهائن أولوية. في المقابل، يسعى نتنياهو لمواصلة الضغط العسكري والسياسي بالتوازي، لا سيما على حماس، ومصر، وقطر، والآن تركيا.
“السؤال هو: ما هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين الفرصة والمخاطر؟” يتساءل معدي.
يرى زامير أن نتنياهو يحاول إلقاء فشل عملية “مركبات جدعون” على الجيش، رغم أن الجيش سيطر على نحو 75% من القطاع، وفرض قبضته الجوية والبرية والبحرية، بحسب معدي. لكن العملية لم تحقق هدفها السياسي الرئيسي: إجبار حماس على قبول الصفقة. لذلك، يسعى زامير إلى “وضع النقاط على الحروف” في الكابينيت، وتحديد المسؤولية السياسية والعسكرية. هذا التوتر يعكس غياب وحدة القرار في إسرائيل، ويهدد بانفجار أكبر إذا استمرت العمليات دون نتائج ملموسة”.
احتلال أم استيلاء
يشير معدي إلى فارق جوهري في اللغة المستخدمة داخل المؤسسة الإسرائيلية: “إسرائيل لا تحبذ استخدام كلمة احتلال، لأنها تعني تولي المسؤولية الكاملة عن كل تفاصيل الحياة المدنية في غزة. أما الاستيلاء، فيُبقي المسؤولية على أطراف أخرى”.
لهذا السبب، يرفض الجيش الإسرائيلي توزيع المساعدات الإنسانية بنفسه، ويفضل إدخالها عبر التجار أو المنظمات الأممية. هدف هذا النهج، بحسب معدي، هو عزل حماس عن إدارة المساعدات، ومنعها من استغلالها لتجنيد عناصر جدد.
ويقول الخبير الأمني إن خطة نتنياهو تتضمن أيضًا تشجيع “الهجرة الطوعية”، وإنشاء 16 مركزًا لتوزيع المساعدات في القطاع، بهدف تخفيف الضغط الأممي، ودفع السكان المحليين للضغط على حماس من الداخل. لكن هذه الخطة تحتاج أسبوعًا إلى عشرة أيام على الأقل لتفعيلها.
نتنياهو يخشى الشارع.
رغم إصراره الظاهري، يبدو أن نتنياهو يواجه ضغطًا داخليًا متزايدًا. المظاهرات تتواصل يوميًا وأسبوعيًا، والبرلمان يشهد “تحركات كثيرة”، كما يقول معدي. خاصة بعد عرض تسجيلات مصورة للرهائن، أظهرت تدهور حالتهم الصحية، ما أثار تعاطفًا واسعًا في الشارع الإسرائيلي.
معواكد أن بعض وزراء الكابينيت الأمني، خاصة من كتلة “درعي”، بدأوا يقتربون من موقف زامير الداعي لتقييم المخاطر قبل أي عملية توغل شاملة. وهذا قد يدفع باتجاه “توافق سياسي عسكري” في المرحلة المقبلة.
في أول رد رسمي، وصفت حركة حماس تصريحات نتنياهو بأنها “انقلاب على مسار المفاوضات”، واعتبرتها محاولة للتهرب من صفقة تبادل الرهائن. وقالت الحركة إن نتنياهو يسعى للتخلص من عبء الرهائن و”التضحية بهم” لأهداف شخصية.
وبحسب معدي، فإن حماس تراهن على الكارثة الإنسانية وتستخدم الرهائن كورقة أخيرة. لكنها تفاجأت بخطوة نتنياهو حين “أسقط مساعدات عبر الجو”، وصور للعالم أن إسرائيل تسمح بإدخال الإغاثة. هذه الخطوة، بحسب معدي، “أخرجت أرنبًا من القبعة”، وأربكت حماس التي لم تكن مستعدة لصفقة شاملة.
ونتنياهو يحاول فرض صفقة شاملة على حماس، بعد أن استنفدت الصفقات الجزئية فائدتها، حسب تحليل معدي. لكن حماس، وفق تقييمه، غير مهيأة حاليًا لحسم موقفها السياسي بشأن مستقبلها في غزة: هل تخرج من المشهد؟ هل تلقي السلاح؟ هل تقبل بتسوية مع السلطة الفلسطينية؟ كل هذه الأسئلة تضع الحركة أمام اختبار سياسي، في ظل دخول أطراف إقليمية مثل تركيا على خط الوساطة.
في السطر الأخير، لا تزال إسرائيل عالقة بين خيارين: الضغط العسكري المستمر أو الانخراط في مسار تفاوضي شاق. وبينما يحاول نتنياهو تحقيق إنجاز سياسي ولو بثمن مرتفع، يبدو رئيس الأركان الإسرائيلي كمن يصرخ في وجه العاصفة، محذرًا من مغبة استبدال الحذر العسكري بالمغامرة السياسية.
ما بين الرهائن، والانقسام السياسي، وتصاعد المظاهرات، والتدخلات الإقليمية، تقترب إسرائيل من نقطة حاسمة. وقد يكون مصير غزة – ومعه مستقبل نتنياهو السياسي – مرهونًا بقرار من الكابينيت لا يعكس فقط توازن القوة، بل ميزان العقلانية.