فشوارع العاصمة تحولت إلى ما يشبه ثكنة عسكرية، مع انتشار الأرتال المسلحة، وتحركات غير مألوفة للآليات العسكرية، وسط دوي إطلاق نار متقطع في بعض الأحياء.
هذا التصعيد يكشف عن عمق الأزمة السياسية والعسكرية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات، ويضع مستقبل العملية السياسية في مهب الريح، في ظل تنازع شرعيات متوازية وغياب مؤسسات أمنية موحدة.
خلفيات الأزمة
بداية الشرارة جاءت مع تصاعد التوتر بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة وجهاز الردع، القوة الأمنية الكبرى في طرابلس.
فالحكومة أطلقت في مايو الماضي مشروع “استعادة سلطات الدولة”، بهدف معلن يتمثل في إخضاع كافة التشكيلات المسلحة للسلطة المركزية.
لكن جهاز الردع، الذي يسيطر على مواقع استراتيجية مثل مطار معيتيقة، الميناء البحري، وسجن معيتيقة الشهير، رفض عملياً الخضوع الكامل لهذا التوجه، ما فاقم منسوب التوتر وأشعل الأزمة مجدداً. وبهذا عادت العاصمة إلى مربع الحشد العسكري المتبادل، وسط أجواء مشحونة بانتظار الشرارة الأولى.
مواقف الحكومة والتحذيرات الأممية
حكومة الدبيبة حذرت بدورها من تداعيات الانزلاق نحو مواجهة مسلحة، معتبرة أن السلم الأهلي على المحك، ودعت الأطراف إلى اللجوء إلى الحوار السياسي كخيار وحيد لتجاوز الخلافات.
أما بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، فقد حذرت من أن أي تصعيد سيكون كارثيا ليس فقط على طرابلس، بل على كامل البلاد، مؤكدة أن الحرب القادمة ستكون بلا رابح وأن المدنيين سيكونون أولى الضحايا.
القلق الشعبي.. عصيان يلوح في الأفق
التوتر العسكري ترافق مع تصاعد الغضب الشعبي. فقد أمهل أهالي طرابلس الكبرى الحكومة 24 ساعة لسحب قواتها من الأحياء المدنية، مهددين بعصيان شامل وربما حراك شعبي مسلح إذا استمرت التحركات العسكرية داخل الأحياء المكتظة.
هذا الإنذار الشعبي يكشف أن معركة طرابلس لن تكون فقط بين ميليشيات متنازعة، بل قد تنفجر في وجه السلطة عبر احتجاجات عارمة تعكس نفاد صبر السكان.
خطر الانفجار وغياب الحلول التوافقية
أكد الكاتب والباحث السياسي محمد محفوظ في حديثه إلى “سكاي نيوز عربية” أن العاصمة طرابلس تعيش حالة مقلقة منذ مقتل آمر جهاز دعم الاستقرار عبد الغني الككلي في مايو الماضي، وما تبعها من مواجهات بين جهاز الردع وقوات الحكومة. ورغم التوصل حينها إلى اتفاق جزئي قضى بانتشار قوات محايدة، إلا أن الاتفاق لم يكن راسخاً، وكان واضحاً أنه مؤقت وهش.
بحسب محفوظ، المؤشرات الحالية تنذر بأن المواجهات المسلحة قد تندلع في أي لحظة، خاصة أن حالة الاستنفار الأمني غير مسبوقة.
ويشير إلى أن الملفات العالقة – مثل تسليم المطار لوزارة المواصلات أو إدارة السجناء – لم تجد طريقها للتنفيذ، وهو ما يزيد من فقدان الثقة بين الأطراف.
ويعتبر محفوظ أن خطورة الوضع تكمن في أن جهاز الردع يتمركز في قاعدة معيتيقة الجوية، وهي موقع استراتيجي في قلب العاصمة يضم مستشفى عسكرياً ومطاراً مدنياً وسجناً ومقار عسكرية حساسة.
كما أن لهذه القاعدة بعدا دوليا لكونها مركزاً للوجود التركي في طرابلس، ما يجعل أي صراع محتمل مع جهاز الردع معقداً للغاية.
الدور التركي والمجتمع الدولي
يشير محفوظ إلى أن تركيا لعبت دوراً بارزاً في منع الحكومة من مهاجمة جهاز الردع في السابق، عبر استخدام الطائرات المسيرة، ما يعكس أن أنقرة لا ترغب في مواجهة قد تهدد نفوذها المباشر في العاصمة.
وبحسبه، هناك رغبة دولية متزايدة لتقليص نفوذ التشكيلات المسلحة في صنع القرار الليبي، لكن هذه الرغبة تصطدم بواقع ميداني معقد وبمصالح متشابكة.
ويرى محفوظ أن أي عملية عسكرية واسعة النطاق ستكون كارثية على الدبيبة نفسه، إذ قد تؤدي إلى سقوط حكومته سريعاً، كما أن المجتمع الدولي لن يقبل باندلاع حرب في قلب العاصمة التي تحتضن مؤسسات الدولة ومراكزها الحيوية.
أزمة شرعية وخيارات محدودة
من جهته، يرى المتحدث السابق باسم مجلس الدولة الليبي، السنوسي إسماعيل، أن خطأ الدبيبة الأكبر هو اعتماده على المجموعات المسلحة منذ فشل إجراء الانتخابات في ديسمبر 2021، ورفضه تسليم السلطة للحكومة التي عيّنها البرلمان.
ويضيف أن الحكومة الحالية منتهية الولاية، وكل قراراتها تفتقر إلى الشرعية، ما يجعل أي تحرك عسكري منها فاقداً للمصداقية السياسية.
إسماعيل اعتبر أن الوقت لم يعد في صالح الدبيبة، خصوصاً مع منح الأطراف السياسية مهلة شهرين للتوصل إلى حكومة موحدة، وبالتالي فإن إشعال حرب في العاصمة سيكون مغامرة خطيرة تهدد حياة ثلاثة ملايين نسمة يقطنون طرابلس ويعتمدون عليها اقتصادياً وخدمياً.
كما شدد على أن استخدام قوات مستقدمة من مصراتة لاقتحام مناطق كبرى مثل سوق الجمعة، التي تعد رمزاً من رموز ثورة فبراير، سيكون قراراً كارثياً، ويرجح أن يثير معارضة حتى من داخل مصراتة نفسها.
الأبعاد الأيديولوجية والسيناريوهات المحتملة
طرح بعض المراقبين فرضية أن يتحول الصراع إلى مواجهة أيديولوجية، بين تيارات سلفية مدعومة من جهاز الردع، وبين أطراف أخرى. لكن محفوظ استبعد هذا السيناريو، معتبراً أن غالبية التيارات الإسلامية الأخرى تفتقر إلى أذرع عسكرية فاعلة.
وبالتالي، يرى أن المواجهة المحتملة ستكون قصيرة ومحدودة جغرافياً، لكن آثارها على المدنيين ستكون جسيمة.
أما إسماعيل، فيرى أن المشكلة أعمق من الإيديولوجيا، إذ تكمن في غياب الدولة القادرة على بناء جيش وشرطة موحدين، وفي اعتماد الحكومات المتعاقبة على الميليشيات لفرض سلطتها.
ويشير إلى أن الأولوية للحكومة المقبلة يجب أن تكون إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية على أسس وطنية، بعيداً عن منطق الصفقات مع التشكيلات المسلحة.
البعد الدولي
كلا الضيفين أكدا أن الإرادة الدولية لا تميل إلى دعم أي حرب في العاصمة، بل تضغط من أجل التهدئة والدفع نحو حكومة توافقية جديدة.
ويرى إسماعيل أن المجتمع الدولي يفضل معالجة ملف الميليشيات تدريجياً عبر حكومة قادرة على الحوار مع القوى العسكرية والسياسية في الشرق والغرب، بدلاً من اللجوء إلى المواجهة المباشرة التي قد تشل العاصمة وتدمر مؤسساتها.
تداعيات إنسانية واقتصادية
الخشية الأكبر تبقى على المدنيين. فطرابلس، التي يسكنها نحو 2.5 مليون نسمة، تستقبل يومياً نصف مليون آخر من ضواحيها ومحيطها للعمل والدراسة.
أي حرب داخل العاصمة ستؤدي إلى شلل كامل في الحياة الاقتصادية والإدارية، وإلى كارثة إنسانية مع توقف المطار والميناء والمستشفيات. هذه المخاطر تجعل من أي خيار عسكري مقامرة قد تعصف بمصير البلاد كله.
المشهد الليبي يعود اليوم إلى المربع الأصعب: العاصمة طرابلس تحت تهديد السلاح، الحكومة منقسمة، المؤسسات معطلة، والمجتمع الدولي يلوّح بالتحذيرات دون أدوات ضغط حاسمة.
تصريحات الضيفين محمد محفوظ والسنوسي إسماعيل تكشف بوضوح أن الأزمة ليست فقط في تحركات الأرتال العسكرية، بل في غياب مشروع وطني جامع قادر على إنهاء سطوة الميليشيات وبناء مؤسسات دولة حقيقية.