ورغم كثرة الأحاديث عن البيئة وتأثيراتها على حياة الإنسان، وضرورة القيام بخطوات تحد من انبعاثات الكربون، إلا أن معظم النقاشات في هذا المجال تتناول الضرر الذي يسببه حرق الوقود الأحفوري، ومحطات الطاقة وتوليد الكهرباء، والصناعات والقطاعات الإنتاجية الكبيرة، لكن غالباً ما يغيب عن ذهنهم التحذير من التلوث الناجم عن التقنيات الرقمية، أو ما يعرف بـ “التلوث الرقمي” والذي يعتبر مشكلة خفية تتعاظم يوماً بعد يوم.
وبحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD، فإن الرقمنة التي تأتي بالعديد من الفوائد الاقتصادية، ستترك بصماتها السلبية على الكوكب، لناحية تكاليفها البيئية، خصوصاً أن زيادة معدلات بث مقاطع الفيديو وتنزيل الملفات وغيرها من الأنشطة عبر الإنترنت، تتطلب المزيد من الطاقة وتوّلد المزيد من الانبعاثات.
ووفقاً لتقديرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة، فإن مراكز البيانات وشبكات تشغيل الخدمات عبر الإنترنت والخدمات السحابية، تتسبب بنحو 1 بالمئة من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية المرتبطة بالطاقة، وهذه النسبة مرشحة للارتفاع، في ظل التوجه العالمي، لتبني المزيد من الخدمات والتقنيات الرقمية الناشئة.
وما لا يعرفه الأفراد أن تصرفاتهم اليومية على شبكة الإنترنت تؤثر سلباً على البيئة، فأي اتصال هاتفي يتم اجراؤه، أو أي رسالة يتم إرسالها عبر الواتساب، أو عبر البريد الإلكتروني، لها فاتورة بيئية غير مرئيّة بالنسبة للمستخدمين، تتعلق بكمية الكربون الناتجة عنها، والتي تساعد في تكوّن ظاهرة الاحتباس الحراري وبالتالي ارتفاع درجة حرارة الأرض.
ما أكثر أنواع الرسائل تلويثاً؟
وتظهر البيانات التي جمعها الباحث في جامعة لانكستر ومؤلف كتاب “البصمة الكربونية لكل شيء” مايك بيرنرز لي، أن أداة الاتصال الأكثر صداقة للبيئة هي الرسالة النصية القصيرة SMS، حيث تولّد كل رسالة 0.014 جراماً من ثاني أكسيد الكربون، في حين تعد رسائل البريد الإلكتروني أكثر أنواع الرسائل تلويثاً للبيئة، فهي تولّد ما يتراوح بين 4 جرامات و50 جراماً من ثاني أكسيد الكربون، وذلك اعتماداً على حجمها ومحتواها.
كما تظهر البيانات أن كل تغريدة يتم نشرها على موقع “إكس” تصدر 0.2 جرام من ثاني أكسيد الكربون، في حين أن إرسال رسالة عبر تطبيقي واتساب وماسنجر، ينتج عنها ما بين 0.2 و0.9 جرام من ثاني أكسيد الكربون، أما بالنسبة للبصمة الكربونية لمكالمة هاتفية مدتها دقيقة واحدة على الهاتف المحمول فتبلغ 0.1 جرام.
لماذا ينبعث كربون من اتصالاتنا الرقمية؟
ويقول المحلل والكاتب المختص بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ألان القارح، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عالمية”، إن كل الأنشطة التي نقوم بها عبر الإنترنت، لها تكلفة بيئية بسيطة، حيث تنبعث منها بضع جرامات من ثاني أكسيد الكربون، بسبب الطاقة اللازمة لتشغيل الشبكات ومحطات الإرسال والأجهزة المرتبطة بها، فالتلوث الرقمي يأتي بشكل رئيسي من استخدام تدفق البيانات عبر الإنترنت، حيث أن أي عملية للتواصل عبر شبكة الإنترنت، تتطلب من الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر الشخصية أو الأجهزة اللوحية، الرجوع للخوادم الموجودة في مراكز البيانات، وفي كل مرحلة من هذه العملية، يتم استهلاك الطاقة، وينبعث ثاني أكسيد الكربون.
وأكد القارح أن كمية الطاقة اللازمة لإرسال رسالة أو بريد إلكتروني عبر الإنترنت صغيرة جداً، ولكن عند الحديث عن وصول عدد مستخدمي شبكة الإنترنت إلى 5.3 مليارات شخص في شهر أكتوبر 2023، ومع توقع كمية الرسائل والاتصالات التي يجريها هؤلاء، يمكننا أن نفهم لماذا تتسبب الخدمات عبر الإنترنت، بنحو 1 بالمئة من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية المرتبطة بالطاقة.
لماذا رسائل الـ SMS أقل كلفة بيئياً؟
ويشرح القارح أن نتائج مختلف الدراسات، أجمعت على أنه من بين جميع وسائل الاتصال، تنتج الرسائل النصية القصيرة الـ SMS، أقل نسبة من ثاني أكسيد الكربون، وذلك كون هذه الرسائل تستخدم ترددات وشبكات الاتصالات الهاتفية التقليدية، التي تضم عدداً أقل من الوسطاء، ما يعني أن المسار الذي تتطلبه عملية نقل محتوى رسالة الـ SMS، بين المُرسل والمتلقي لها، هو مسار شبه مباشر، ما يخفف من حجم استهلاك الطاقة، وفي المقابل تحتاج عملية إرسال رسالة عبر البريد الإلكتروني لكمية طاقة أكبر، كونها تستخدم شبكة الإنترنت وتشغل عدة خوادم، مع إمكانية أن تحتوي على نصوص وصور ومستندات وملفات كبيرة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الحاجة لمزيد من موارد الطاقة.
وشدد القارح على أنه كلما أمضى المستخدم يومه في تصفح الإنترنت وتحميل الصور، وتشغيل الموسيقى ومشاهدة الفيديوهات، كلما تسبب برفع نسبة حركة المرور على الإنترنت في العالم، ما يؤدي بالتالي إلى رفع نسبة التلوث الرقمي، لافتاً إلى أن اجتماع عمل عن بعد عبر الفيديو مدته خمس ساعات، من شأنه أن ينتج ما بين 4 إلى 215 كلغ من ثاني أكسيد الكربون، في حين أن كل عملية بحث على الإنترنت، لها بصمة كربونية قدرها 0.2 جرام، وفقاً لأرقام جوجل، وهو الأمر الذي يشكك به بعض الخبراء الذي يقدرون حجم الانبعاثات الصادرة عن عملية بحث على غوغل أو غيره من محركات البحث، بـ 7 جرامات من ثاني أكسيد الكربون.
من جهته يقول الباحث المختص في تكنولوجيا المعلومات هشام الناطور، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، من المهم جداً أن يدرك المستخدمون الضرر البيئي الذي تتسبب به عاداتهم على شبكة الانترنت، فرغم أن الحد من البصمة الكربونية الناتجة عن التقنيات الرقمية، هو أمر صعب جداً في الوقت الراهن، إلا أن التغيير في سلوك المستخدمين، ومهما كان صغيراً، يمكن أن يؤثر في الحد من انبعاثات الكربون، وهذا يشمل الطريقة التي نتصرف بها على الإنترنت، حيث يتوجب علينا تخفيف معدّل استخدامنا لشبكة الإنترنت، والتوقف عن إرسال رسائل البريد الإلكتروني والدردشات غير الضرورية، معتبراً أن اختيار إرسال الرسائل النصية القصيرة SMS هو البديل الأكثر صداقة للبيئة، ولكن هذا الخيار مكلف بالنسبة للمستخدمين، وبالتالي لا يمكن لمحاولات اعتماده كوسيلة اتصال نظيفة أن تنجح، فقلة من الناس سيقبلون هذا الأمر.
شبكة إنترنت خالية من “الذنب البيئي”
وشدد الناطور على أن التغييرات في سلوك المستخدمين عبر الإنترنت، لن تصل بنا إلى حد التخلص أو تخفيض البصمة الكربونية بشكل كبير، فهذا الأمر مرتبط بإجراء تغييرات كبيرة داخل الصناعة، تضمن التأكد من أن الشركات التي تشغل الإنترنت، تقوم بما يلزم للتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، والتخلص تدريجياً من الوقود الأحفوري، وعندها سيكون استخدام الخدمات المرتبطة بشبكة الإنترنت خالياً من “الذنب البيئي”، كون معظم البصمة الكربونية لخدمات الإنترنت مرتبطة بالطاقة، مشيراً إلى أن جوجل تستخدم حالياً مزيجاً من الطاقة المتجددة، وذلك لتخفض نسبة الانبعاثات التي تنتجها خدماتها، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على مايكروسوفت وشركات تقنية أخرى.
ولفت الناطور إلى أنه رغم وجود اختلافات بتقدير حجم الانبعاثات، التي تسببها كل خدمة على الإنترنت، إلا أن الثابت الوحيد هو اتفاق جميع الخبراء على أن تشغيل الإنترنت، يولّد في حد ذاته، كمية كبيرة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، فكي يعمل الإنترنت يجب أن تكون هناك مراكز بيانات يتم تزويدها بالكهرباء والشبكات والمعدات والكابلات، والتبريد، وما إلى ذلك من أمور تؤدي إلى انبعاث الكربون، في وقت تتوقع فيه بعض الدراسات أن تصل انبعاثات الغازات الدفيئة، الناتجة عن صناعة تكنولوجيا المعلومات، إلى 14 بالمئة من الانبعاثات العالمية بحلول عام 2040، ولذلك أصبح التوصل إلى حل لهذه المشكلة أمراً اساسياً في العصر الحالي ولكن الأمور ليست بهذه البساطة.