ورغم أن مصانع إنتاج توربينات الغاز تعمل بأقصى طاقتها الإنتاجية، فإن الإمدادات الحالية غير قادرة على مواكبة الوتيرة المتسارعة للطلب، ما يثير المخاوف من نقص محتمل في الطاقة خلال السنوات المقبلة.
وتتطلب عملية تصنيع توربين الغاز الذي يمكن أن يصل وزنه إلى 500 طن، مهارات فائقة ودقة شديدة، حيث يُمضي العمال أسابيع في صقل المعادن لتصبح بعرض بضعة ملليمترات، إضافة إلى تركيب مئات القطع بأنماط معقدة لضمان أن العمود المركزي للتوربين الذي يدور بسرعة تصل إلى 3000 دورة في الدقيقة يعمل بشكل صحيح.
وبعد أشهر من التجميع الدقيق والاختبارات المتكررة، يصبح التوربين جاهزاً للعمل في محطات الطاقة، وذلك إثر اجتيازه سلسلة صارمة من القيود لضمان أدائه المثالي. ويُمكن لمصنع توربينات ضخم أن يُنتج سنوياً نحو 50 توربيناً فقط، ما يعكس مدى الجهد اللازم لإنتاج هذه الأدوات الحيوية.
عطش متسارع للطاقة
وبحسب تقرير أعدته “بلومبرغ” واطّلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن العالم يشهد اليوم عطشاً متسارعاً للطاقة، إذ أدى ازدهار الذكاء الاصطناعي إلى توسّع غير مسبوق في عدد مراكز البيانات عالية الاستهلاك للكهرباء، فيما يتزايد في الوقت نفسه الطلب من المستهلكين والقطاعات الصناعية على الطاقة بوتيرة متصاعدة.
كما أدّى انتقال العديد من الدول من معامل توليد الكهرباء عبر الفحم، إلى معامل توليد الكهرباء عبر الغاز، إلى ارتفاع حاد في الطلب على توربينات الغاز، حيث فاجأ هذا التسارع موردي التوربينات.
ووفقاً لحسابات بلومبرغ نيوز، تُواجه محطات توليد الطاقة العاملة بالغاز، والتي تُقدَّر قيمتها بأكثر من 400 مليار دولار أميركي، والمخطط إنشاؤها حتى نهاية العقد، خطر التأجيل أو الإلغاء، نتيجة العجز عن تلبية الطلب المتزايد على توربينات الغاز.
3 شركات تتحكم بالسوق
وتكمن المشكلة الأساسية في نقص التوربينات إلى وجود ثلاثة موردين رئيسيين فقط لهذه الصناعة، إذ تستحوذ سيمنز الألمانية للطاقة، إلى جانب جنرال إلكتريك فيرنوفا الأميركية وميتسوبيشي اليابانية للصناعات الثقيلة المحدودة، على أكثر من 70 في المئة من الطاقة الإنتاجية لصناعة توربينات الغاز، ما يجعل أي ضغط في الطلب ينعكس فوراً على السوق بأكملها.
أما شركات انتاج توربينات الغاز الصينية، فلا تزال تواجه صعوبة في منافسة المنتجين الألمان واليابانيين والأميركيين، فبعد سنوات من البحوث تمكنت الصين في أكتوبر 2024، من انتاج توربين غاز محلي الصنع بقدرة 300 ميغاواط فقط، أي ما يُقارب نصف قدرة التوربينات التي تنتجها سيمنز أو جنرال إلكتريك أو ميتسوبيشي، حيث أنه بعد عقود من الدمج والسرية، أصبحت هذه الشركات الـ 3 مُستعدة لجني أرباح طائلة من الارتفاع المفاجئ في الطلبات، أقله على المدى القصير، وذلك على اعتبار أنه حتى الساعة لا يوجد أحد يملك الموارد الكافية للتعدي على هيمنة هذه الشركات.
الدول الأكثر تضرراً
وتُعتبر فيتنام من بين الدول الأكثر تأثراً بأزمة التوربينات، إذ أن استراتيجية الطاقة في البلاد، تدعو إلى بناء ما لا يقل عن 22 مشروعاً لتوليد الطاقة بالغاز بحلول عام 2030. ولكن وفقاً لمسح أجرته “بلومبرغ نيوز”، لم يحصل سوى مشروع واحد من هذه المشاريع على عقد توربينات ملزم، في وقت تواجه فيه الصناعة تضخماً في الأسعار، مما سيجعل الكلفة أعلى من المعدلات التي وافقت شركات بناء معامل الغاز على دفعها سابقاً، وهو ما يُهدد بجعل هذه المشاريع غير قابلة للتنفيذ.
أما في الولايات المتحدة، فمن المتوقع أن ينمو الطلب على الطاقة بنسبة 25 في المئة بحلول عام 2030، إذ يخطط المطورون لبناء أكثر من 26 جيغاواط من سعة الطاقة الجديدة العاملة بالغاز بحلول عام 2028، وذلك وفقاً لمسح أجرته إدارة معلومات الطاقة الأميركية لشركات البناء والمُشغّلين.
وهذا التراكم الكبير في المشاريع يُتوقَّع أن يفرض ضغوطاً غير مسبوقة على سلاسل توريد توربينات الغاز، حيث تشير تقديرات “وود ماكنزي” إلى أن بعض المشاريع المخطط لها قد لا تدخل مرحلة الإنتاج الفعلي للطاقة قبل عام 2030 أو حتى بعده.
بدورها تهدف ألمانيا إلى بناء ما يصل إلى 20 محطة طاقة جديدة تعمل بالغاز بحلول عام 2030، وتتشابه القصة إلى حد كبير في مجمل أنحاء أوروبا، إذ من المتوقع أن يبلغ إجمالي الاستثمار في محطات الطاقة التي تعمل بالغاز وأنظمة البطاريات 587 مليار دولار أميركي حتى عام 2030، وفقاً لمجموعة غولدمان ساكس.
في المقابل، تدرس الشركات اليابانية أيضاً خططاً لبناء منشآت طاقة جديدة تعمل بالغاز، بعد أن تراجعت الحكومة عن رأيها بأن الطلب على الطاقة يشهد انخفاضاً طويل الأمد، حيث يعود ذلك جزئياً إلى التوسع المتوقع في بناء مراكز البيانات المخصصة لتشغيل الذكاء الاصطناعي.
أما المملكة العربية السعودية فتسعى إلى استثمار مليارات الدولارات بسرعة، لإضافة محطات تعمل بالغاز، في إطار استراتيجية أوسع لتعزيز توليد الكهرباء قبل استضافة المملكة لمعرض إكسبو 2030 العالمي، في حين يضغط منتجو الطاقة في الصين من أجل اعتماد الخطة الخمسية، المقرر إقرارها في عام ٢٠٢٦، والتي تنص على بناء محطات غاز جديدة بقدرة إنتاجية تبلغ حوالي ٧٠ جيغاواط بحلول نهاية العقد.
الذكاء الاصطناعي يشعل الطلب
ويرى لورينزو سيمونيلي، الرئيس التنفيذي لشركة بيكر هيوز، وهي شركة أميركية لتكنولوجيا الطاقة، أن قوة الحوسبة اللازمة للذكاء الاصطناعي، أدت إلى زيادة كبيرة في الطلب على توربينات الغاز، كاشفاً أن حوالي ثلث حجوزات توربينات شركة جنرال إلكتريك فيرنوفا، ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالذكاء الاصطناعي وأجهزة الحوسبة الضخمة.
بدورها تتوقع “بلومبرغ إن إي إف” أن يزيد استهلاك الطاقة في مراكز البيانات بأكثر من ثلاثة أضعاف بحلول عام 2035، في حين ترى وكالة الطاقة الدولية أن احتياجات الكهرباء من مرافق مراكز البيانات، ستمثل ما يقرب من نصف النمو في إجمالي الطلب على الطاقة من الآن وحتى عام 2030.
كيف تواكب الشركات الطلب؟
من جهتها، اتخذت الشركات الثلاث الكبرى المسيطرة على سوق توربينات الغاز، خطوات فعلية لمواكبة الطلب المتزايد، فشركة جنرال إلكتريك فيرنوفا أعلنت العام الماضي عن خطط لتوسيع طاقتها الإنتاجية إلى ما بين 70 و80 توربيناً غازياً، عالي التحمل سنوياً بدءاً من عام 2026 ارتفاعاً من 55 توربيناً، فيما تسعى شركة ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة جاهدةً، لزيادة طاقة توربينات الغاز خلال العامين المقبلين. أما نائب الرئيس الأول لخدمات الغاز في شركة سيمنز للطاقة، فقد أعلن أنه ليس من السهل زيادة إنتاج التوربينات، في الوقت الذي تُكافح فيه سلسلة التوريد بأكملها لمواكبة التطور الحاصل في السوق.
مفاجآت الثورة الرقمية
ويقول مهندس الطاقة والنفط محمد عبد الله، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن التحول من الفحم إلى الغاز كان خطوة متوقعة نحو خفض الانبعاثات، لكن دخول الذكاء الاصطناعي كلاعب أساسي، غيّر قواعد اللعبة وأبطل مفعول أي تخطيط سابق فجأة، حيث لم تكن الشركات ولا حتى صُنّاع القرار يتوقعون أن يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة رقمية إلى عامل ضغط على الطاقة، فمراكز البيانات أصبحت تستهلك كميات كهرباء تضاهي حجم استهلاك دول صغيرة، لتصبح النتيجة، طلباً هائلاً على محطات الغاز يقابله عرض مقيّد.
احتكار غير معلن
ويشرح عبدالله أن الأزمة الحالية تكشف عن خطر تركّز الصناعة في أيدي عدد محدود من الشركات، فوجود ثلاثة مورّدين فقط يسيطرون على 70 في المئة من السوق العالمية لتوربينات الغاز، يخلق حالة احتكار غير معلنة، وهذا التركّز يجعل من أي اضطراب في الإنتاج، أو حتى تأخيرٍ في شحن مكوّنات أساسية، تهديداً مباشراً لأمن الطاقة العالمي، مشيراً إلى أن أسوأ ما في الأمر هو أن بناء مصانع جديدة لانتاج توربينات الغاز، ليس بالأمر السهل أو السريع، فهذه الخطوة تحتاج إلى استثمارات بمليارات الدولارات ونحو 3 إلى 5 سنوات قبل الوصول إلى الإنتاج الكامل، ما يعني أن أي عملية سريعة لتحسين انتاج التوربينات غير واردة على المدى القريب.
ويضيف عبدالله إن المشكلة في صناعة توربينات الغاز، ليست فقط في عدد المصانع، بل في سلسلة التوريد بأكملها، فعملية تصنيع توربين بوزن 500 طن، تتطلب دقة هندسية عالية في المعادن والمكونات المعقدة، ولذلك لا يمكن زيادة الإنتاج بين ليلة وضحاها، فالأمر يتطلب استثمارات ضخمة في الآلات الدقيقة، وتدريب العمالة المتخصصة، وتأمين المواد الخام النادرة المقاومة للحرارة.
الصناعة لم تكن مستعدة
ويؤكد عبدالله أن صناعة توربينات الغاز لم تُبنَ أساساً لتلبية هذا النوع من الطفرات المفاجئة، ففي السنوات الماضية، روّجت الحكومات وشركات الطاقة الكبرى لرواية “الانتقال السريع” إلى مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والشمس، ما جعل الاستثمار في البنية التحتية الغازية يتراجع تدريجياً، ولكن صعود الذكاء الاصطناعي والتوسع في مراكز البيانات، جعل الدول التي كانت تتجه لتقليص الاعتماد على الغاز تجد نفسها مضطرة للعودة إليه كوقود مرحلي، لأنه ببساطة أكثر استقراراً من الشمس والرياح وأقل تلوثاً من الفحم.
حل أزمة توربينات الغاز
ويشدد عبدالله على أن معالجة أزمة توربينات الغاز، تتطلب استراتيجية مزدوجة تتعامل مع ضغوط العرض القصيرة الأجل وتكسر احتكار السوق على المدى الطويل، فعلى المستوى العاجل، يجب على الحكومات وشركات الطاقة التركيز على تحقيق أقصى استفادة من الأسطول الحالي من التوربينات، عبر تمديد عمرها الافتراضي وتحسين كفاءة صيانتها، كما يمكن منح حوافز لشركات مثل جنرال إلكتريك وسيمنز، لتمكينها من تسريع عمليات التوسع وإنتاج الأجزاء الحيوية، بالإضافة إلى ذلك يجب إعادة تقييم المشاريع المخطط لها وإعطاء الأولوية للمشاريع الأكثر إلحاحاً والمرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
أما على المدى الطويل، فيرى عبدالله أنه يجب وضع هدف رئيسي، يتمثل بكسر هيمنة الشركات الثلاثة الكبرى من خلال تنويع قاعدة الموردين، حيث أن هذا التنويع هو الضمان الوحيد لعدم تكرار “صدمة الطلب” المفاجئة التي كشفت عن هشاشة صناعة توربينات الغاز في مواجهة الذكاء الاصطناعي.