استراتيجية بكين ركّزت على تنويع الأسواق وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، فخفضت نسبة الصادرات إليها من 22 بالمئة في 2018 إلى 12 بالمئة العام الماضي فقط. وفي المقابل، وسّعت الصين علاقاتها التجارية لتصبح الشريك الأول لـ 70 دولة، تشمل دولاً إفريقية وآسيوية وأوروبية، بما في ذلك ألمانيا التي أصبحت الشريك التجاري الأكبر بدل الولايات المتحدة.
كما ركّزت الصين على المنتجات الحيوية التي لا غنى عنها: فهي الأكبر عالمياً في إنتاج الآلات والسفن وألواح الطاقة الشمسية، ومكوّنات المضادات الحيوية، والمعدات الكهربائية، ورقائق الكمبيوتر منخفضة التكلفة، والمعادن النادرة، ما يجعل الأسواق العالمية عاجزة عن الاستغناء عنها.
وبحسب إدارة الجمارك الصينية، بلغ الفائض التجاري للصين منذ بداية 2025 نحو 965 مليار دولار، بينما سجلت الصادرات إلى الولايات المتحدة 352 مليار دولار بانخفاض 18 بالمئة ، في مقابل نمو 26 بالمئة في الصادرات إلى القارة الإفريقية، ما يعكس نجاح استراتيجية الصين في التوسع الدولي وحماية موقعها الريادي في الاقتصاد العالمي.
التحول الكبير في الاقتصاد الصيني منذ عام 2000
أوضح عضو الجمعية المصرية للاقتصاد و التشريع د. محمد أنيس خلال حديثه الى برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية أن فهم السياسة الاقتصادية الصينية الحالية يتطلب العودة إلى عام 2000، حيث كان الناتج المحلي الإجمالي للصين حوالي 1.2 تريليون دولار، في حين بلغت قيمة صادراتها نحو 250 مليار دولار، وكانت الولايات المتحدة الشريك التجاري الأكبر للصين. بالمقابل، فإن الصين في عام 2025 أصبحت قوة اقتصادية عكسية تماماً، يتميز اقتصادها بنمو هائل وميزان تجاري يفوق تريليون دولار فائضاً، ما يعكس مدى التخطيط الاستراتيجي الذي نفذته الدولة على مدار أكثر من عقدين.
الاستراتيجية الصينية لمواجهة السياسات الأمريكية
وفقاً لد. أنيس، هناك ثلاثة محاور أساسية لسياسة الصين التجارية في مواجهة الولايات المتحدة:
- إعادة هيكلة الصادرات:
الصين كانت تصدر نحو 25 بالمئة من منتجاتها إلى السوق الأميركية، وقد خفضت هذا الرقم إلى 17 بالمئة بهدف التركيز على بقية الأسواق العالمية، وبالتالي تقليل تأثير السياسات الحمائية الأميركية على الاقتصاد الصيني. - تقليص الواردات من أميركا:
لم يقتصر الأمر على خفض الصادرات فحسب، بل شمل أيضاً الحد من الواردات الأميركية، خصوصاً السلع الزراعية والغاز المسال، وهو ما استهدف بشكل مباشر القاعدة الانتخابية للرئيس ترامب دون التأثير على الاستراتيجية السياسية للصين. - تعزيز الروابط الاقتصادية مع باقي العالم:
من خلال زيادة الإنفاق على مبادرة “الحزام والطريق” بأكثر من تريليون دولار، قدمت الصين تمويلاً مباشراً وبنسبة فائدة منخفضة للدول المشاركة، ما عزز الروابط الاقتصادية مع دول العالم، بخلاف الاعتماد على المؤسسات المالية الغربية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة والقطاع الخاص الغربي.
تأثير الحرب التجارية على الأطراف المختلفة
وأشار د. أنيس إلى أن تقييم أكثر المتضررين من السياسات التجارية الأميركية ليس بالأمر البسيط، حيث تأثرت كل من الصين وأميركا في قطاعات محددة، بينما استفادت قطاعات أخرى. وأكد أن المعركة التجارية تتجاوز الاقتصاد التقليدي، لتشمل التحولات الكبرى في:
- الذكاء الاصطناعي: حيث أصبح معياراً للتنافسية التكنولوجية المستقبلية.
- الاقتصاد الأخضر: الذي يشكل أحد ركائز الاقتصاد الجديد للقرن الحادي والعشرين.
- الأبعاد العسكرية والجيوستراتيجية: التي تعكس صراعات النفوذ على المستوى الدولي.
الابتكارات الصينية في التلاعب التجاري والتكنولوجيا
لفت د. أنيس إلى أن الصين برعت في استخدام أدوات “التلاعب التجاري”، عبر تصنيع منتجاتها محلياً ثم تمريرها عبر دول مثل إندونيسيا وفيتنام والمكسيك لتدخل السوق الأمريكية على أنها منتجات محلية لتلك الدول، وهو ما يعكس مستوى عالي من التخطيط الاستراتيجي.
كما تمكنت الصين من الاستفادة من الاستخبارات الاقتصادية للحصول على تقنيات غربية، وإعادة تطويرها محلياً، ما أدى إلى تحسين جودة منتجاتها وتقديمها بأسعار تنافسية نسبياً، مع الحفاظ على جانب الابتكار التكنولوجي، إذ لم تعد المنتجات الصينية مجرد سلعة رخيصة، بل أصبحت تعبيراً عن التكنولوجيا المحلية المتقدمة.
الصين واستشراف المستقبل
أكد د. أنيس أن الصين تتميز بوضوح استراتيجياتها المستقبلية، وتطبيقها بشكل صارم. وأشار إلى مثال الاستثمار في السكك الحديدية، حيث قررت الدولة استثمار القطاع العام في تطوير البنية التحتية، بينما تركت القطاع الخاص للاستثمار في صناعة السيارات الكهربائية والتقليدية. بعد عشر سنوات من هذه القرارات، بدأت نتائج هذه الاستراتيجية تظهر على أرض الواقع، مما يعكس قدرة الصين على التخطيط بعيد المدى وتنفيذ سياسات واضحة وفعالة.
يمكن القول إن السياسة التجارية للصين ليست مجرد رد فعل لحرب ترامب التجارية، بل هي نتيجة استراتيجية طويلة المدى قامت على ثلاث ركائز أساسية: تنويع الشركاء التجاريين، إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة بشكل يحمي مصالحها السياسية والاقتصادية، وتعزيز الاستثمارات الدولية من خلال مبادرات طموحة مثل “الحزام والطريق”.
تعكس هذه السياسة قدرة الصين على الجمع بين التخطيط الاقتصادي الدقيق والاستشراف المستقبلي للتكنولوجيا والاقتصاد الأخضر، مما يجعلها لاعباً مركزياً في النظام الاقتصادي العالمي، قادر على الحفاظ على مكانته وتعزيز نفوذه على الساحة الدولية.


