اعتبرت الجولة بمثابة تحرك اقتصادي مدروس هدف إلى إعادة تموضع الولايات المتحدة كلاعب رئيسي في معادلة التجارة والطاقة وسلاسل الإمداد العالمية.
وخلال محطاته الأخيرة، أعلن ترامب سلسلة من الاتفاقات التي بدت للوهلة الأولى خطوة نحو تحرير التجارة وتعزيز الشراكة مع دول رابطة آسيان، غير أن تفاصيل هذه الصفقات سرعان ما أثارت تساؤلات حول من المستفيد الحقيقي منها. فبين وعود بتوسيع الوصول إلى الأسواق الأميركية، والتزامات بشراء منتجات أميركية، بدت واشنطن وكأنها الطرف الذي حصد النصيب الأوفر من المكاسب الاقتصادية والسياسية.
وبينما اعتبرت مؤسسات بحثية أن هذه الاتفاقات قد تشكل اختباراً مبكراً لسياسة ترامب التجارية الجديدة في آسيا، يرى محللون أن الجولة مثلت أكثر من مجرد صفقات تجارية، بل كانت محاولة لإعادة رسم خريطة النفوذ بين الولايات المتحدة والصين.
في هذا السياق، قالت وكالة بلومبرغ إيكونوميكس إن:
- أحدث الاتفاقات التجارية التي أبرمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع دول رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) قد تنطوي على مخاطر تجعل هذه الدول تحصل على مكاسب أقل مما تحصده واشنطن في المقابل.
- ذكرت الخبيرتان نيكول غورتون-كاراتيلي وتمارا ماست هندرسون في مذكرة بحثية صدرت الأربعاء، أن اتفاق كمبوديا -وهو الاتفاق الوحيد الذي تضمن تفاصيل كافية للتحليل- يمثل “نذيرًا سيئًا لبقية الدول التي تأمل في خفض ملموس للتعريفات الجمركية المتبادلة”.
- وأضافتا أنه إذا تمسّك المفاوضون بالقائمة الضيقة نفسها من الإعفاءات التي تعرضها واشنطن، فإن “هذه الصفقات لن تقلص فعليًا الرسوم الجمركية التي تواجهها صادرات آسيان إلى الولايات المتحدة”.
- حتى في حال أسقطت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية المتبادلة على جميع السلع المدرجة حاليًا ضمن قائمة الإعفاءات المحتملة، تُقدّر بلومبرغ إيكونوميكس أن هذا سيغطي أقل من 1 بالمئة من الواردات القادمة من كمبوديا، و3 بالمئة من ماليزيا، و3.5 بالمئة من تايلاند، و2.7 بالمئة من فيتنام.
وأعلن ترامب، يوم الأحد، عن اتفاقين تجاريين مع كمبوديا وماليزيا، إلى جانب اتفاقات إطارية مع تايلاند وفيتنام. وتتضمن الترتيبات وعوداً بوصول أوسع للسلع الأميركية، والتزامات بشراء منتجات زراعية أميركية وطاقة وطائرات، إضافة إلى الوصول إلى المعادن الحيوية. في المقابل، تقدم واشنطن إعفاءات من التعريفات المتبادلة لمجموعة محدودة من المنتجات، لا تزال معظمها غير محددة.
ووفق التقرير، فإن جميع الاتفاقات الأربعة تستند إلى القائمة ذاتها من الإعفاءات الجمركية المحتملة التي كشفت عنها الولايات المتحدة في سبتمبر، وهو ما يشير، بحسب غورتون-كاراتيلي وهندرسون، إلى أن أي تنازلات “ستأتي من تلك القائمة كما حدث في حالة كمبوديا، وهو ما لا يُبشّر بخير بالنسبة لآسيان”.
وأشارتا إلى أن القائمة محدودة أساسًا، إذ تضم سلعًا إما مستثناة أصلًا من الرسوم الجمركية أو مشروطة بقيود تقلل من فائدتها، مثل تطبيقها فقط على المكونات المستخدمة في الطائرات المدنية. كما أن هذه السلع لا تمثل قطاعات تصديرية رئيسية لدول آسيان.
ومع ذلك، أوضحتا أن تركيز الإدارة الأميركية على المعادن الحيوية قد يمنح ماليزيا وتايلاند وفيتنام “بعض المجال لتحسين موقعها التفاوضي”.
خارطة النفوذ
يقول الباحث في العلاقات الدولية، أبو بكر الديب، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن الجولة الآسيوية الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب مثّلت فصلًا جديدًا من الصراع على قيادة النظام الاقتصادي العالمي، إذ سعى ترامب لإعادة رسم خريطة النفوذ الأميركي في مواجهة الصين تحت شعار غير معلن: “استعادة واشنطن لموقعها كقوة مهيمنة على سلاسل الإمداد والطاقة والتكنولوجيا.”
يوضح الديب أن استراتيجية ترامب قامت على مبدأ الاقتصاد أولاً والسياسة عبر الاقتصاد؛ ففي اليابان، ركّز على ملف المعادن النادرة ونجح في ضمان دور أميركي محوري في تأمينها بعيدًا عن النفوذ الصيني، مقابل تعزيز الدعم العسكري لليابان. أما في كوريا الجنوبية، فجمعت الزيارة بين الاقتصاد والسياسة، إذ حملت الصفقات التي تم التطرق إليها دلالة على عودة واشنطن كمزود رئيسي للطاقة والسلاح في آسيا، فيما حصلت سيول على تسهيلات تجارية في السوق الأميركية ضمن إطار النفوذ الاقتصادي الأمني.
ويضيف أن الملف الصيني كان الأكثر حساسية، حيث أدار ترامب حوارًا حذرًا مع الرئيس شي جين بينغ، الخميس، انتهى بتفاهمات محدودة بما في ذلك تشديد الرقابة على مكونات الفنتانيل، وتخفيف جزئي للرسوم الجمركية. ويعتبر الديب ذلك نجاحًا أميركيًا في إعادة ضبط العلاقة التجارية بما يخدم مصالح واشنطن.
ويشير إلى أن ترامب تحرك بخطوات مدروسة جمعت بين الاقتصاد والدبلوماسية الرمزية، إذ رعى اتفاق تهدئة بين تايلاند وكمبوديا، تلاه توقيع تفاهمات اقتصادية في مجالات البنية التحتية والطاقة، بما أعاد للولايات المتحدة موقع الوسيط الفاعل من بوابة الاقتصاد لا القواعد العسكرية.
ويختتم حديثه بالتأكيد على أن الجولة مثّلت إعادة توزيع لمراكز القوة ضمن ما سماه “الترامبية الجديدة”، القائمة على مبدأ “الأمن مقابل التجارة”. كما منحت ترامب ورقة داخلية قوية مع عقود تستفيد منها شركات أميركية كبرى، فيما خرج الحلفاء الآسيويون بمكاسب متفاوتة. مؤكّدًا أن آسيا أصبحت المسرح الرئيسي لصراع القرن بين واشنطن وبكين، وأن ترامب في جولته الأخيرة “نجح في إعادة تعريف قواعد اللعبة.”
الاتفاق مع الصين
ويوم الخميس، أوقفت بكين ضوابط التصدير على المعادن النادرة، بينما خفضت واشنطن الرسوم الجمركية المرتبطة بالفنتانيل، عقب اجتماع مهم بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ في كوريا الجنوبية.
قالت وزارة التجارة الصينية إن ضوابط التصدير الصينية التي أُعلن عنها في التاسع من أكتوبر ستتأخر لمدة عام، في حين ستؤجل الولايات المتحدة بالمثل تنفيذ التدابير التي أُعلن عنها في التاسع والعشرين من سبتمبر والتي أدرجت أيضا الشركات التابعة المملوكة للأغلبية للشركات الصينية في القائمة السوداء للكيانات الأميركية .
وقال ترامب للصحافيين على متن الطائرة الرئاسية أثناء مغادرته كوريا الجنوبية إن الاجتماع مع شي كان “مذهلاً” وأن “الكثير من القرارات تم اتخاذها”، بحسب شبكة “سي إن بي سي” الأميركية.
وأضاف: “لقد تمت تسوية قضية المعادن النادرة”، كاشفاً عن أن الاتفاق مدته عام واحد وسيتم التفاوض عليه كل عام.
ومع ذلك، لا تزال القيود التي فرضتها بكين على المعادن النادرة في أوائل أبريل قائمة.
ونقلت الشبكة عن رئيسة قسم الاقتصاد الآسيوي في أكسفورد إيكونوميكس، لويز لو، قولها في مذكرة يوم الخميس: “إن نفوذ الصين في معالجة المعادن النادرة والمعادن الأساسية سوف يستمر في الظهور بشكل متقطع، مما يحد بشكل فعال من أي تصعيد في التوترات الثنائية”.
صفقات ترامب
بدوره، يؤكد رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets جو يرق، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب غالباً ما يظهر كالرابح في أي اتفاق اقتصادي؛ لأنه “يسعى دائماً وراء الصفقات”، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة شهدت في السابق اتفاقات تعاون إيجابية مع دول مثل كوريا الجنوبية واليابان، تميزت بترحيب واسع واستثمارات موعود بها، لكن العبرة تبقى في التنفيذ الفعلي لهذه الاتفاقات، إذ أن بعض تلك الالتزامات لم تُنفذ بالكامل على أرض الواقع.
ويضيف أن ما جرى مؤخراً مع الرئيس الصيني مختلف تماماً، فـ”العالم كان يتوقع التوصل السريع إلى اتفاق، لكن حتى الرئيس ترامب اعترف بأن نظيره الصيني صعب في المفاوضات”، موضحاً أن الرسوم الجمركية لم تشهد تخفيضات كبيرة، إذ تراجعت من 57 بالمئة إلى 47 بالمئة فقط، بينما لا تزال الصين متمسكة بعدة شروط رئيسية، ما يجعل الطريق نحو اتفاق شامل “غير سهل أبداً”.
ويتابع يرق قائلاً إن الأسواق كانت قد سعّرت على أساس قرب التوصل إلى اتفاق “لكننا كنا قد أشرنا سابقاً إلى أننا لا نراهن كثيراً على ذلك، لأن الصين تمتلك عناصر قوة تفاوضية ضخمة تفوق ما لدى إدارة ترامب، وعلى رأسها هيمنتها على المعادن النادرة التي تشكّل العمود الفقري للصناعات الحديثة والتكنولوجيا الجديدة”.


