فقد أدت قرارات تسريح أكثر من 300 ألف موظف حكومي، وخفض الميزانية العامة بشكل حاد، وتخفيض الضرائب على الأثرياء، إلى إشعال الغضب الشعبي، فيما أضافت سياسات مكافحة الهجرة واستمرار الحرب التجارية مع الصين مزيداً من الوقود على نار الأزمة.
وخلال مشاركته في برنامج “بزنس مع لبنى” على قناة سكاي نيوز عربية، تحدث رئيس شركة بويز للاستثمارات شريف عثمان عن دوافع هذه المظاهرات وتداعياتها، مشيراً إلى أن ما يجري في الشارع الأميركي يتجاوز الطابع الاقتصادي، ليعكس انقساماً سياسياً ومجتمعياً عميقاً داخل أكبر اقتصاد في العالم.
جذور الأزمة: رفض لنهج ترامب في الحكم
يقول شريف عثمان إن جوهر هذه الاحتجاجات “يتضح من الشعارات التي رفعها المتظاهرون”، موضحاً أن الأميركيين لا يريدون رئيساً يفرض رأيه بطريقة ديكتاتورية في بلد “يُفترض أنه ديمقراطي منذ أكثر من قرنين ونصف”.
وأضاف أن سياسات ترامب “تتناقض مع ما اعتاد عليه الشعب الأميركي من احترام للحريات والمشاركة، وهو ما فجّر موجة غضب واسعة بين مختلف الفئات”.
وأوضح عثمان أن الاحتجاجات الحالية ليست اقتصادية فقط، بل تشمل ملفات مترابطة تمس جوهر الحياة اليومية للأميركيين، مثل سياسات الهجرة، وتقليص الرعاية الصحية، وعدم الاهتمام بحقوق العمال.
وقال إن “ترامب يتجاوز إرادة فئات واسعة من المجتمع، محاولاً فرض سياسات لا تحظى بقبول شعبي، الأمر الذي أصاب مختلف القطاعات بالضرر، من رجال الأعمال إلى الموظفين الحكوميين والمهاجرين”.
مظاهرات شاملة… وغضب يتسع
وأشار عثمان إلى أن هذه التظاهرات “شملت جميع أطياف المجتمع الأميركي”، حيث “تضررت فئات عدة من السياسات الاقتصادية الجديدة”، بدءاً من العمال في القطاعين العام والخاص، وصولاً إلى المستوردين والمصدرين وأصحاب المشاريع الصغيرة.
وأوضح أن “الرفض الشعبي لهذه السياسات تصاعد تدريجياً خلال الأشهر الأخيرة، حتى بلغ ذروته اليوم، مع تسجيل ثالث أكبر إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة”.
هذا الإغلاق، كما قال، أصاب مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين الذين “لم يتقاضَ بعضهم أجورهم، فيما فقد آخرون وظائفهم دون ضمان العودة”، مشيراً إلى أن “تكلفة هذا الإغلاق تجاوزت ملياري دولار يومياً، ما أثر بشدة على ثقة الأسواق في الأصول الأميركية”.
السياسات المالية… عبء على المواطن
لفت رئيس شركة بويز للاستثمارات إلى أن الميزانية الأميركية الجديدة التي خفّضت الإنفاق على الرعاية الصحية “لعبت دوراً كبيراً في إشعال فتيل الغضب”، موضحاً أن “الأميركيين يرون في هذه الخطوة اعتداءً على حقهم في الرعاية، خصوصاً في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة والضرائب غير المباشرة”.
كما انتقد سياسات الهجرة التي اعتبرها “صارمة وغير إنسانية”، مشيراً إلى أن 400 ألف مهاجر تم ترحيلهم قسراً، بينما غادر 1.6 مليون مهاجر طواعية نتيجة الأوضاع الصعبة وسياسات التضييق.
وأضاف أن “هذه السياسات تسببت في اضطراب اجتماعي حاد، حيث باتت الهجرة محوراً للانقسام السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي”.
الحرب التجارية… سيف موجه ضد المستهلك
أوضح عثمان أن الأزمة تعمّقت أكثر بسبب سياسة التعريفات الجمركية التي يتبعها ترامب، قائلاً:
“ما إن بدأ الأميركيون يتنفسون الصعداء من تبعات الحرب التجارية مع الصين، حتى فاجأهم ترامب بتهديد جديد بفرض تعريفات تصل إلى 100 بالمئة على السلع الصينية.”
وأشار إلى أن توقيت هذه القرارات “كارثي”، لأن الولايات المتحدة “تستعد لفترة الأعياد، التي تُستورد فيها نحو 90 بالمئة من الهدايا والمنتجات من الصين”، ما جعل الأسعار ترتفع بشدة وأرهق المستهلكين.
وأضاف أن “هذه التطورات مثّلت فرصة للديمقراطيين لتحدي سياسات ترامب، وطرح بدائل أكثر توازناً في إدارة الاقتصاد والعلاقات التجارية”.
مظاهرات سلمية… ولكن التوتر قائم
ورغم الغضب الشعبي الكبير، استبعد عثمان أن تتطور الاحتجاجات إلى عنف واسع النطاق، موضحاً أن “أحد المبادئ الأساسية لمنظمي المظاهرات هو تجنب التصعيد والعنف، وتم تدريب العديد من المشاركين على التعامل السلمي مع قوات الأمن”.
لكنه حذّر من أن “الاستهانة الرسمية بالمحتجين قد تدفع نحو انفجار أكبر في المستقبل القريب”.
وأشار إلى أن البيت الأبيض تعامل مع المحتجين “بأسلوب مهين”، حيث “نُشر فيديو باستخدام الذكاء الاصطناعي يسخر منهم ويظهر البيت الأبيض وكأنه غير مكترث بمطالبهم”، واعتبر أن هذا “التصرف المستفز سيزيد من حدة الغضب الشعبي”.
الثقة بالدولار… في مهب الريح
تطرّق عثمان خلال حديثه إلى التداعيات الاقتصادية الأوسع لهذه الأزمة، قائلاً إن “الثقة في العملة الأميركية تراجعت بشكل واضح خلال الأسابيع الأخيرة”، بالتزامن مع تحركات دولية “للتخفيف من هيمنة الدولار” على النظام المالي العالمي.
وأوضح أن الصين وروسيا وعدداً من الدول الأخرى تسعى إلى “إرساء نظام متعدد الأطراف في التسويات المالية”، عبر مبادرات مثل تحالف “البريكس“، وإطلاق اليوان الرقمي كعملة تسوية بديلة.
وقال عثمان إن هذه الجهود “تهدف إلى تقليص الاعتماد على الدولار الأميركي في المعاملات الدولية”، مؤكداً أن “هذا التحول وإن كان تدريجياً، فإنه يمثل تحدياً استراتيجياً كبيراً للولايات المتحدة”.
وأشار إلى أن “الابتعاد عن الدولار سيصب في مصلحة بعض الأصول البديلة مثل الذهب والفضة وربما العملات المشفرة”، لكنه شدد على أن “هذا المسار يحتاج إلى سنوات طويلة، ولا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها”.
ترامب يراهن على الدولار الضعيف
وفي تفسيره لموقف البيت الأبيض من تراجع الدولار، قال عثمان إن “الأمر معلن بوضوح، فالرئيس ترامب صرّح أكثر من مرة بأن الدولار الضعيف يساعد على زيادة الصادرات الأميركية ويحدّ من العجز التجاري”.
وأضاف أن هذا النهج “يخالف ما استقر عليه الإجماع الاقتصادي لعقود”، إذ كانت السياسة الأميركية تقوم على أن قوة الدولار هي عنصر استقرار وثقة في الاقتصاد العالمي.
وأشار إلى أن إدارة ترامب “ترى أن خفض قيمة الدولار قد يخفف من حدة الدين الأميركي الذي ارتفع بمعدل ستة مليارات دولار يومياً منذ بداية العام”، لكن في المقابل “فقدت الأسواق ثقتها في العملة الخضراء، وهو ما انعكس على سندات الخزانة وتدفقات رؤوس الأموال”.
خفض الفائدة… رهان محفوف بالمخاطر
توقع شريف عثمان أن تتجه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى خفض معدلات الفائدة في الاجتماعين المقبلين قبل نهاية العام، أو خلال العام القادم، في محاولة لتحفيز الاقتصاد المتباطئ.
لكنه أشار إلى أن “الولايات المتحدة تأخرت في اتخاذ هذه الخطوة مقارنة بدول أخرى، ما جعل الدولار يفقد جزءاً من جاذبيته أمام العملات الرئيسية”.
وقال إن “تراجع الفائدة سيؤدي إلى مزيد من الضعف في قيمة الدولار مقابل العملات العالمية، الأمر الذي قد يرفع أسعار السلع الأساسية، ويزيد من الضغط على الأسر الأميركية التي تعاني أصلاً من ارتفاع تكاليف المعيشة”.
الانقسام الأميركي… بين من يرى “الإنقاذ” و”التهور“
يرى عثمان أن الانقسام داخل الولايات المتحدة “بلغ مستويات غير مسبوقة”، بين من يعتبر أن ترامب “ينقذ الاقتصاد الأميركي بقوة وجرأة”، وبين من يراه “يُدمّر أسس الديمقراطية ويقود البلاد إلى الهاوية”.
وأوضح أن هذا الانقسام “انعكس بوضوح في المؤسسات السياسية والإعلامية، وحتى داخل الشركات الكبرى”، مشيراً إلى أن “المؤيدين يرون في قرارات ترامب استعادةً للمكانة الأميركية، فيما يعتبرها المعارضون خروجاً على التقاليد الاقتصادية والسياسية الراسخة”.
وأضاف أن “هذه الحالة من الاستقطاب الحاد تضعف ثقة المستثمرين العالميين في الولايات المتحدة، وتفتح الباب أمام منافسين جدد على الساحة المالية الدولية”.
آثار الإغلاق الحكومي… فاتورة سياسية واقتصادية باهظة
وحول تداعيات الإغلاق الحكومي الأميركي، قال شريف عثمان إن “تكلفته اليومية التي تجاوزت ملياري دولار ليست مجرد رقم، بل انعكاس لتوقف قطاعات كاملة عن العمل، وتراجع إنتاجية الدولة”.
وأضاف أن “هذه الأزمة أدت إلى تراجع ثقة المواطنين في مؤسساتهم، وأظهرت هشاشة النظام السياسي في مواجهة الخلافات الداخلية”.
وأشار إلى أن “الأضرار لم تقتصر على الجانب المالي فقط، بل طالت صورة الولايات المتحدة في الخارج، حيث بدا للعالم أن النظام السياسي الأميركي عاجز عن إدارة أزماته”.
نحو مرحلة جديدة من الغموض
في ختام حديثه، أكد رئيس شركة بويز للاستثمارات أن الولايات المتحدة تمر بمرحلة دقيقة للغاية، تتسم بتقلبات اقتصادية وسياسية متسارعة، قائلاً:
“الاحتجاجات التي نشهدها اليوم ليست نهاية الأزمة، بل ربما بداية مرحلة جديدة من إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع في أميركا.”
وأضاف أن “الثقة بالاقتصاد الأميركي لن تستعاد إلا عبر مصارحة حقيقية بين الإدارة والمواطنين، وإصلاحات تضع الإنسان في قلب السياسات، لا الأرقام والمؤشرات فقط.”
ملامح مشهد أميركي مضطرب
- 7 ملايين متظاهر خرجوا في 2600 مظاهرة عبر الولايات المتحدة.
- 300 ألف موظف حكومي فقدوا وظائفهم منذ تولي ترامب الحكم.
- 6 مليارات دولار زيادة يومية في الدين العام الأميركي.
- 400 ألف مهاجر رُحّلوا قسراً، و1.6 مليون غادروا طواعية.
- تكلفة الإغلاق الحكومي تجاوزت ملياري دولار يومياً.