وفي ظل هذا الخراب الواسع، تحوّل الاقتصاد في غزة إلى ما يشبه الأطلال، بعدما فقدت القطاعات كافة تقريباً قدرتها على العمل أو التعافي الذاتي، وتراجعت فرص العمل والإنتاج إلى مستويات غير مسبوقة.
كما ألقت الأزمة بظلالها على المشهد الفلسطيني الأشمل، إذ انتقلت تداعياتها إلى الضفة الغربية عبر انكماش الناتج المحلي واحتجاز أموال المقاصة وتآكل القدرة الشرائية، ما خلق حالة من الشلل المالي والمعيشي تكشف هشاشة الاقتصاد الوطني أمام الضغوط السياسية والأمنية المستمرة.
كما انعكست تداعيات الحرب بقوة أيضاً على الاقتصاد الإسرائيلي الذي وجد نفسه في مواجهة فاتورة مالية غير مسبوقة، لتتراجع معدلات النمو ويرتفع العجز المالي والدين العام، في الوقت الذي أصيبت فيه قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا والسياحة والطاقة بانتكاسات حادة، لتدخل إسرائيل بدورها في دوامة من التباطؤ والانكماش بفعل كلفة الحرب الممتدة واستنزاف الموارد.
وفي خضم هذا الواقع القاتم، تلوح في الأفق بارقة أمل سياسية بعد موافقة حركة حماس على خطة السلام الأميركية، وبدء المفاوضات لصياغة تفاصيلها التنفيذية، في خطوةٌ قد تمهّد لتحولٍ جذري إذا ما قادت إلى وقف دائم للحرب وإطلاق مسار لإعادة الإعمار، في لحظة ينتظر فيها الفلسطينيون أن تتحوّل الوعود إلى فعل يعيد لغزة نبضها الاقتصادي المفقود.
تقييم الخسائر الاقتصادية في غزة
بعد مرور عامين على الحرب المدمرة على قطاع غزة، كشف المكتب الإعلامي الحكومي عن حصيلة أولية صادمة لحجم الخسائر التي لحقت بالقطاعات الحيوية في القطاع، إذ قدّر مجموع الخسائر المباشرة لـ “الإبادة الجماعية” بنحو 70 مليار دولار، في واحدة من أكبر الكوارث الاقتصادية والإنسانية في التاريخ الحديث.
وفق البيانات الرسمية الصادرة عن المكتب، جاءت القطاعات الخدمية والإسكانية والصحية على رأس قائمة المتضررين، إذ بلغت خسائر القطاع الإسكاني نحو 28 مليار دولار نتيجة الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية والمساكن، فيما وصلت خسائر القطاع الصحي إلى قرابة 5 مليارات دولار بسبب تدمير المستشفيات والمراكز الطبية وانقطاع الخدمات الأساسية. أما القطاع التعليمي، فقد تكبّد خسائر تقارب 4 مليارات دولار جراء تدمير المدارس والجامعات ومرافق التعليم.
كذلك القطاعات الاقتصادية والإنتاجية، التي نالت نصيباً واسعاً من الأضرار، إذ بلغت خسائر القطاع الصناعي نحو 4 مليارات دولار، بينما قدّر الضرر في القطاع التجاري بنحو 4.5 مليارات دولار، وفي القطاع الزراعي بنحو 2.8 مليار دولار. كما خسر قطاع النقل والمواصلات ما يقارب 2.8 مليار دولار، وقطاع الاتصالات والإنترنت نحو 3 مليارات دولار.
وفي القطاعات الخدمية والمساندة، سجّل قطاع الخدمات والبلديات خسائر بنحو 6 مليارات دولار، في حين بلغت خسائر قطاع الكهرباء نحو 1.4 مليار دولار. كما قدّرت خسائر القطاع المنزلي (محتويات المنازل) بـ 4 مليارات دولار، والقطاع الترفيهي والفندقي بنحو 2 مليار دولار، إلى جانب 0.8 مليار دولار للقطاع الإعلامي، و1 مليار دولار للقطاع الديني الذي طالت الاعتداءات خلاله المساجد والكنائس والمقابر.
وتعكس تلك التقديرات الإجمالية حجم المأساة التي يعيشها أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، حيث لا تزال آثار الدمار والشلل الاقتصادي تحاصر الحياة اليومية، وسط تحذيرات من أن إعادة الإعمار قد تستغرق سنوات طويلة وتحتاج إلى تدخل دولي عاجل لإحياء مقومات الحياة الأساسية في القطاع المنكوب.
تدمير شامل
من جانبه، يقول المحلل الاقتصادي الفلسطيني، الدكتور نصر عبدالكريم، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- إن ما يجري في غزة لم يعد مجرد عدوان عسكري، بل إبادة اقتصادية شاملة قضت على مقومات الحياة الاقتصادية في القطاع.
- خسر اقتصاد غزة أكثر من 90 بالمئة من قيمته، وتوقفت جميع القطاعات الإنتاجية تقريباً من زراعة وصناعة وتجارة وسياحة، فيما لم تتبق سوى أنشطة محدودة مرتبطة بالإغاثة أو الإنتاج المنزلي البسيط.
- معدلات البطالة في القطاع تجاوزت 85 بالمئة تقريباً، فيما يعيش معظم السكان اليوم تحت خط الفقر، معتمدين بشكل شبه كامل على المساعدات الدولية.
- حجم الدمار الاقتصادي في غزة بلغ مستوى غير مسبوق.. وتكلفة إعادة الإعمار باتت تتجاوز 70 مليار دولار، بعد أن كانت التقديرات الأولية أقل من ذلك بكثير.
ويضيف: “إن ما جرى لغزة لا يمكن وصفه إلا بأنه تدمير ممنهج للبنى التحتية والمرافق والقدرات الإنتاجية، ما جعل من المستحيل الحديث عن اقتصاد بالمعنى التقليدي داخل القطاع”، مشيراً إلى أن الضفة الغربية لم تكن بمعزل عن الأضرار، إذ تراجع الناتج المحلي هناك بأكثر من ثلث قيمته خلال العامين الماضيين، وتضاعفت معدلات البطالة والفقر إلى مستويات غير مسبوقة. فالاقتصاد الفلسطيني بمجمله، بحسب قوله، يمر بـ”حالة انكماش قسري” نتيجة القيود الإسرائيلية وإغلاق المعابر وتعليق تصاريح العمال، ما أفقد مئات آلاف الأسر مصادر دخلها الأساسية.
ويبيّن عبد الكريم أن المالية العامة الفلسطينية تعاني شللاً شبه كامل، بعدما أوقفت إسرائيل تحويل أموال المقاصة بالكامل منذ مايو 2025، ليُحتجز ما يقارب 3 مليارات دولار من مستحقات الفلسطينيين، مؤكداً أن هذا الحجز يعد “قرصنة مالية صريحة” أضعفت قدرة السلطة الفلسطينية على دفع الرواتب وتقديم الخدمات الاجتماعية، وأدت إلى تجفيف السيولة داخل السوق المحلي وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين.
خسائر إسرائيل الاقتصادية
على الجانب الآخر، وبعد عامين من الحرب، تبدو إسرائيل أيضاً غارقة في واحدة من أعمق أزماتها الاقتصادية منذ تأسيسها، إذ تتباين التقديرات الرسمية وغير الرسمية لتكشف عن فاتورة مالية هائلة تتجاوز مئات المليارات من الشواكل، وتلقي بظلال ثقيلة على الموازنة العامة وسوق العمل والقطاع العقاري، وحتى على السياسات النقدية لبنك إسرائيل نفسه.
تشير تقديرات بنك إسرائيل، إلى أن الكلفة الإجمالية للحرب بلغت نحو 330 مليار شيكل، أي ما يعادل 100 مليار دولار، وهو ما يعني أن كل أسرة إسرائيلية تتحمل نظرياً عبئاً يقدّر بنحو 111 ألف شيكل (33.6 ألف دولار)، وسط تحذيرات من تأثير العدوى الاقتصادية’ المرتبطة بامتداد أثر الحرب لسنوات قادمة.
بينما تقديرات وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، تشير إلى أن تكلفة الحرب تصل إلى نحو300 مليار شيكل (89.4 مليار دولار). فيما تمتد الخسائر الاقتصادية لتغطي النفقات العسكرية الضخمة (حيث بلغ الأنفاق العسكري 168 مليار شيكل (51.3 مليار دولار) في عام 2024، بزيادة تفوق الضعف مقارنة بعام 2022) ودمار البنية التحتية، علاوة على تراجع النشاط في قطاعات حيوية مثل السياحة والتجارة والصناعة، الأمر الذي فرض عبئاً مباشراً على الاحتياطيات المالية ويضعف قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على الصمود، في وقت اضطر فيه بنك إسرائيل إلى خفض توقعاته للنمو الاقتصادية إلى 2.5 بالمئة فقط، مقارنة بتقديرات سابقة بلغت 3.3 بالمئة في يوليو الماضي.
أما تقديرات معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، فتشير إلى أن الخسائر المباشرة وحدها تتجاوز الـ 60 مليار دولار، وسط تقديرات أخرى ترى أن الأثر الحقيقي قد يكون أكبر بكثير، نظراً لتأثير الحرب على قطاعات حيوية مثل الصناعة والتجارة والسياحة والعقارات.
كما أثّرت الحرب على غزة بشكل عميق في البنية الاقتصادية الإسرائيلية، إذ أصابت قطاعات محورية مثل التكنولوجيا والابتكار، التي كانت تمثل دعامة للنمو وجذب الاستثمارات الأجنبية. فقد تراجعت وتيرة الاستثمارات الدولية وصفقات التمويل، وتفاقم نقص الكفاءات بعد استدعاء الاحتياط، ما أضعف إنتاجية الشركات وأربك المشاريع، بينما تراجعت صادرات التكنولوجيا بفعل اضطراب سلاسل الإمداد.
كما تلقى قطاع الطاقة والغاز الطبيعي ضربة قاسية مع توقف الإنتاج في بعض الحقول البحرية وتعليق الصادرات إلى مصر والأردن، ما كبّد الحكومة خسائر بمليارات الدولارات وأدى إلى تراجع الإيرادات وزيادة المخاطر الأمنية حول مشاريع الغاز الإقليمية، التي باتت رهينة الاستقرار الميداني.
كذلك تعرّض قطاع السياحة لانهيار شبه كامل بعد تراجع أعداد الزوار وإلغاء الفعاليات الكبرى، ما تسبب بخسائر تقارب 12 مليار شيكل (3.4 مليارات دولار)، انعكست سلباً على سوق العمل والدخل العام. أما قطاع الطيران، فشهد تحوّلاً في حركة النقل بعد تراجع الشركات الأجنبية وارتفاع حصة الشركات الإسرائيلية، في مؤشر على تصاعد العزلة الجوية للبلاد.
وفي المقابل، تراجعت الاستثمارات والتجارة الدولية مع إلغاء مؤتمرات وصفقات بمليارات الدولارات، بينما تلقت الصناعات العسكرية ضربة قوية بعد إلغاء عقود تسليح من دول أوروبية وآسيوية، لتفقد إسرائيل جزءاً من أسواقها الدفاعية.
تباطؤ وانكماش
وبالعودة لتصريحات عبد الكريم، فإنه يتطرق لخسائر الاقتصاد الإسرائيلي، مشيراً إلى أن:
- الاقتصاد الإسرائيلي يدفع ثمناً باهظاً للحرب، إذ بلغت كلفة العدوانات المتواصلة على غزة ولبنان وإيران نحو 70 إلى 80 مليار دولار وفق بعض التقديرات.
- كما تفاقم العجز في الموازنة العامة إلى أكثر من 5 بالمئة من الناتج المحلي.
- رتفع الدين العام إلى نحو 70 بالمئة.
- تلك الأعباء دفعت وكالات التصنيف الائتماني العالمية إلى خفض تصنيف إسرائيل مرتين متتاليتين، في ظل تباطؤ النمو وانكماش قطاعاتها الإنتاجية.
ويختتم عبد الكريم تصريحاته بالقول إن أية تسوية سياسية جادة تفتح الطريق نحو إنهاء العدوان ورفع الحصار وربط غزة بالضفة، يمكن أن تُحدث تحولاً اقتصادياً جذرياً للطرفين، منبهاً إلى أن عودة الثقة وبدء الإعمار سيجلبان استثمارات ومساعدات ضخمة، ويعيدان النشاط الاقتصادي تدريجياً، لكنه يشدد في الوقت نفسه على أن الاستفادة الأكبر ستظل من نصيب الاقتصاد الإسرائيلي ما لم يُمنح الفلسطينيون حقهم الكامل في بناء دولة قابلة للحياة اقتصادياً وجغرافياً.