فمنذ السابع من أكتوبر، بدا أن إسرائيل اختارت الرد العسكري الواسع بوصفه “الحل الوحيد” لاستعادة هيبتها وردع المقاومة، إلا أن الشهور المتتالية من التصعيد والدمار لم تسفر حتى الآن عن نصر حاسم، ولا عن إطلاق الرهائن، ولا حتى عن استراتيجية متكاملة لإدارة “اليوم التالي” في قطاع غزة.
نتنياهو بلا خطة.. وإسرائيل بلا أفق
يقول الباحث في معهد ترومان للسلام في الجامعة العبرية، روني شاكيد، في تصريحات تعكس هشاشة المشهد السياسي والعسكري إن إسرائيل دخلت الحرب بغضب وخرجت منها إلى ضباب. لا أحد في الحكومة يعرف ما الهدف النهائي. هل القضاء على حماس؟ هل استعادة الرهائن؟ هل حكم غزة؟ كل تلك الأسئلة تُطرح دون إجابة”.
ويؤكد شاكيد خلال حديثه إلى برنامج التاسعة على سكاي نيوز عربية أن ما يجري هو “تخبط مقنن”، وأن القيادة الحالية تُدير الأزمة بالحد الأدنى من التخطيط والحد الأقصى من الخطاب الشعبوي.
ويضيف: “التهرب من تحديد معالم المستقبل يُخفي فشلا استراتيجياً عميقاً.. لا يوجد تصور سياسي واضح لما بعد حماس، ولا شريك فلسطيني بديل، ولا موافقة داخلية أو دولية على سيناريوهات الاحتلال الدائم.”
الشارع يغلي.. من صدمة الرهائن إلى صراخ العائلات
أصبحت الجنائز العسكرية والتظاهرات الجماهيرية منذ أسابيع، تعبيراً صريحاً عن تصدع الإجماع القومي في إسرائيل. مشاهد لأمهات تبكين أمام الكنيست، وهتافات لعائلات رهائن تصف نتنياهو بـ”الخائن”، أعادت رسم حدود العلاقة بين السلطة والمجتمع.
“أعادونا إلى الحرب، ولم يعيدوا أبناءنا”، قال أحد آباء الرهائن خلال مظاهرة أمام وزارة الدفاع، مضيفاً: “نتنياهو يهرب من المفاوضات الحقيقية ليكسب الوقت، لكنه يخسره أمام الجميع”.
حتى الإعلام العبري، الذي غالباً ما يُصطف خلف الأجندة الأمنية، بدأ يعرض الانتقادات بنبرة أشد، متحدثاً عن “مأزق قيادي يتكرر كل يوم في غزة دون جديد سوى الألم”.
في الميدان.. اجتياحات لا تنهي المعركة
أعادت إسرائيل الأسبوع الماضي اجتياح مخيم جباليا شمال غزة، رغم أنه سبق أن أعلنت السيطرة عليه بالكامل. وتساءل شاكيد: “هل نحن أمام تكرار للمهام العسكرية دون جدوى؟ إذا عدنا إلى النقطة نفسها، فماذا حققنا؟”.
وأشار إلى أن غياب النتائج على الأرض يُضعف الجيش في أعين جمهوره، ويُفقد الحرب شرعيتها السياسية، مضيفا أن ما يحدث قد يُفضي إلى أزمة عميقة في العلاقة بين الجيش والحكومة.
في موازاة ذلك، تستمر فصائل المقاومة في تنفيذ عمليات نوعية تؤكد بقاء قدرتها القتالية. وتؤكد التقارير العسكرية الإسرائيلية أن “القيادة العسكرية لحماس لا تزال تحت الأرض”، ما يقوض الادعاءات الرسمية بتحقيق تقدم حاسم.
مفاوضات القاهرة.. وأوهام التقدم
وسط ضغوط دولية متصاعدة، تحاول إسرائيل الإيحاء بوجود انفراجة في مفاوضات تبادل الأسرى، لكن شاكيد يحذر من الإفراط في التفاؤل: “الحكومة تعلم أن أي اتفاق يتطلب وقف إطلاق النار، وهي غير مستعدة لذلك، خوفاً من خسارة أوراقها السياسية”.
ويتابع: “الواقع أن الحكومة تُراهن على الزمن، لا على الحلول، لكنها بذلك تُغامر بكل شيء: حياة الجنود، ثقة المواطنين، وحتى صورة إسرائيل الدولية”.
أزمة ثقة متفاقمة
في عمق هذا المشهد، تبرز أزمة أكبر: أزمة الشرعية الأخلاقية. فالعالم لم يعد يرى الحرب على غزة كـ”دفاع عن النفس”، بل بات يتحدث بلغة “الإفراط في القوة”، و”العقاب الجماعي”، و”الانهيار الإنساني”.
ويشير شاكيد إلى أن “إسرائيل تخسر الحرب الإعلامية بقدر ما تتعثر في الحرب الميدانية”، وأن نتائج ذلك قد تمتد لعقود في علاقاتها مع أوروبا، ومع العرب، ومع الداخل اليهودي المتنوع أصلا.
إلى أين يقود نتنياهو إسرائيل؟
أمام المشهد المعقد في غزة وتآكل الثقة داخليًا، يبدو أن إسرائيل لا تخوض حربًا ضد عدو خارجي فحسب، بل تواجه أزمة عميقة في الرؤية والقيادة.
فبينما تتصاعد طبول الحرب في الميدان، يرتفع صوت الغضب في الشارع الإسرائيلي، وتتلاشى شعارات النصر أمام واقع سياسي وعسكري مأزوم.
نتنياهو، الذي طالما قدّم نفسه كضامن للأمن القومي، يجد نفسه اليوم في مواجهة عدّادات الزمن والرهائن والخسائر، وسط أسئلة لا إجابات لها: ما الغاية من الاستمرار؟ وما الثمن الذي يمكن تحمّله؟.