فيما لم يعد المشهد الاقتصادي مرسوماً وفق معادلات تقليدية، بل أصبح ساحة لصراع بين الرؤى المتفائلة التي تراهن على نشاط القطاع الخاص والإصلاحات الاقتصادية، والتقديرات المتشائمة التي تحذر من تآكل الميزات التنافسية وتراجع القدرة الشرائية للمستهلك الأميركي.
في ظل هذا الانقسام، تتباين التحليلات بين من يرى أن التباطؤ الحالي هو جزء من إعادة هيكلة ستقود إلى اقتصاد أكثر كفاءة، وبين من يخشى أن يكون ذلك مؤشراً على ضعف بنيوي طويل الأمد.
طريق مضطربة
وفي مقال له على وكالة بلومبرغ نيوز، يقول الخبير الاقتصادي العالمي محمد العريان، رئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج:
- يتفق المحللون الاقتصاديون في وول ستريت على أن الاقتصاد الأميركي يواجه مرحلة مضطربة في المدى القريب؛ مع تباطؤ في النمو، وضغوط تضخمية متزايدة، وتعقيدات في العلاقات الاقتصادية والمالية العالمية.
- إلا أن التوقعات بعيدة المدى لا تزال محل انقسام حاد؛ بين من يعتقد بأن الولايات المتحدة تعزز مكانتها، ومن يرى أنها تفقد ميزاتها التنافسية.
- تشير البيانات “الناعمة” الأخيرة إلى إشارات تحذيرية، أبرزها تراجع ثقة المستهلك وفقاً لاستطلاع جامعة ميشيغان. فالتوقعات بشأن الدخل والتضخم تتخذ منحى سلبياً، وبعض هذه الاتجاهات بدأت تظهر في البيانات “الصارمة”، ما يعزز احتمالات مراجعة توقعات النمو لعام 2025 بشكل جذري.
ويتبنى العريان الرأي القائل بأنه لم يعد من المنطقي الاعتماد على توقعات صندوق النقد الدولي في يناير الماضي بنمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 2.7 بالمئة في 2025، والتي جاءت بناءً على توقعات بارتفاع الطلب وتأثير الثروة الإيجابي. بدلاً من ذلك، من المتوقع أن يتم خفض هذه التوقعات إلى 2 بالمئة أو أقل خلال الأسابيع المقبلة، حيث قامت “غولدمان ساكس” بالفعل بخفض توقعاتها إلى 1.7 بالمئة.
أسباب تراجع التوقعات
في تقدير العريان، تتزايد العوامل التي تدفع نحو مراجعات سلبية؛ من بينها الضغوط التي تواجه الأسر ذات الدخل المنخفض، بالإضافة إلى عدم اليقين في السياسات الحكومية، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية وإعلانات إدارة كفاءة الحكومة (DOGE)، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار في الدخل والأسعار، ويؤدي إلى تعطل المدفوعات الفيدرالية للمقاولين.
كما أن الخطاب الاقتصادي لإدارة ترامب تطور من مرحلة “لا شيء يستدعي القلق” إلى الإقرار بوجود “اضطرابات طفيفة” مرتبطة بعملية “إزالة السموم” الاقتصادية.
علاوة على ذلك، قد تؤدي التراجعات الحادة في سوق الأسهم – حيث شهد مؤشر S&P 500 خامس أسرع تصحيح له منذ الحرب العالمية الثانية – إلى تأثير سلبي على الثروة، مما يزيد من قلق المحللين حول تداعيات ذلك على الاستهلاك والاستثمار. كما أن قدرة مجلس الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة بشكل كبير لمواجهة تباطؤ النمو والتوظيف قد تكون مقيدة بسبب الديناميكيات التضخمية غير المواتية.
الانقسام حول آفاق الاقتصاد الأميركي
فيما يتفق الكثيرون على أن الطريق سيكون وعراً، تبقى الآراء متباينة حول الوجهة النهائية للاقتصاد الأميركي، وفق العريان.
- يرى البعض أن هذه المرحلة الانتقالية قد تعزز الآفاق طويلة المدى عبر تحسين كفاءة القطاع الخاص، وترشيد دور الحكومة، وتخفيف القيود على قوانين مكافحة الاحتكار، وخفض الضرائب، وتقليل تكاليف الطاقة، والسيطرة على الدين العام.
- كما يتوقعون نظاماً تجارياً أكثر عدالة، مع زيادة الإنتاج الصناعي داخل الولايات المتحدة وتقاسم أعباء الأمن القومي مع شركاء دوليين.
- في المقابل، يخشى آخرون من تآكل الميزات الهيكلية التي طالما دعمت الاقتصاد الأميركي.. فهم قلقون من تأثير بيئة تشغيل أقل استقراراً وسيادة قانون متذبذبة على نشاط القطاع الخاص.. كما يرون أن الدين العام سيتزايد مع تباطؤ النمو الفعلي والمحتمل.
- إضافةً إلى ذلك، يشككون في كفاءة الإصلاحات الحكومية الجارية، ويحذرون من أن دور الولايات المتحدة كمركز اقتصادي عالمي قد يتراجع مع إعادة تشكيل العلاقات التجارية وانتقال بعض الدول بعيدًا عن الدولار.
وبحسب العريان، فغنه رغم التوافق المتزايد حول صعوبة المرحلة المقبلة، لا يزال من المبكر الجزم بمصير الاقتصاد الأمريكي. لكن ما يبدو واضحاً هو أن الطريق قد تصبح أكثر اضطراباً في ظل تفاعل العالم مع التطورات الاقتصادية الأميركية.
تفاوت
من جانبه، يسلط الخبير الاقتصادي من الولايات المتحدة، محي الدين قصار، الضوء على الفجوة بين الاقتصاد الحقيقي وسوق الأسهم الأميركية، مشيراً إلى أن الإنتاجية في القطاعات الحقيقية لا تزال قوية، لكن تقييم الشركات في البورصة دخل في مرحلة “فوق التثمين”، مما أدى إلى تصحيح في السوق.
كما يربط قصار بين تراجعات “وول ستريت” وبعد تولي الرئيس ترامب الحكم في ولايته الثانية وبين سياساته الاقتصادية التي وصفها بأنها مأزومة، مشيراً إلى أن هذه السياسات تسببت في حالة من عدم الاستقرار في الأسواق المالية.
رغم ذلك، يؤكد أن الاقتصاد الحقيقي ما زال متيناً، لكنه يحذر من أن استمرار الانخفاض في الأسواق قد يؤثر في النهاية على الاقتصاد الأوسع، خاصة إذا أدى ذلك إلى فقدان الوظائف وارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية، مما قد يقود إلى ركود اقتصادي محتمل.
ويشير قصار إلى أن الحرب التجارية التي شنها ترامب على العالم تؤدي إلى ارتفاع الأسعار داخل وخارج الولايات المتحدة، معبراً عن اعتقاده بأن الرئيس قد لا يكون مدركاً تماماً لتداعيات قراراته الاقتصادية.
في النهاية، يؤكد أن سياسة ترامب تهدد النمو الاقتصادي وتزيد من تقلبات الأسواق المالية، حيث إن الغموض وعدم الاستقرار السياسي من سمات إدارته، وهو ما ينعكس سلباً على ثقة المستثمرين. كما يوضح أن معدلات النمو ستكون أقل من المتوقع، وأن الدول التي شهدت نمواً قوياً في العام الماضي ستكون الأكثر تأثراً بالاضطرابات الحالية مقارنة بالدول التي تتمتع باقتصاد أكثر استقرارًا واستقلالية عن سوق القروض العالمية.
نمو ضعيف
ووفقاً لأحدث التقديرات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإنه “من المتوقع أن يكون النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم أقل مما كان متوقعا في السابق بسبب الرسوم الجمركية التي اقترحها الرئيس دونالد ترامب على السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة والتي تؤثر على النمو”.
وقالت المنظمة، يوم الاثنين، في تقريرها المؤقت عن التوقعات الاقتصادية:
- “من المتوقع أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 3.2 بالمئة في العام 2024، إلى 3.1 بالمئة في عام 2025 و3.0 بالمئة في العام 2026، مع ارتفاع الحواجز التجارية في العديد من اقتصادات مجموعة العشرين وزيادة عدم اليقين الجيوسياسي والسياسي الذي يثقل كاهل الاستثمار والإنفاق الأسري”.
- “من المتوقع أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في الولايات المتحدة عن وتيرته القوية الأخيرة، ليصل إلى 2.2 بالمئة في العام 2025 و1.6 بالمئة في العام 2026”.
في توقعاتها السابقة، التي نُشرت في ديسمبر، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نمواّ اقتصادياً عالمياً بنسبة 3.3 بالمئة هذا العام والعام المقبل. وكان من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 2.4 بالمئة في العام 2025 و2.1 بالمئة في العام 2026.
وقال الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ماتياس كورمان، إن حالة عدم اليقين بشأن السياسة التجارية كانت عاملاً رئيسياً في توقعات المنظمة، بحسب شبكة “سي إن بي سي” الأميركية.
وأفاد بأنه “هناك مستوى كبير للغاية من عدم اليقين في الوقت الحالي، ومن الواضح أن الاقتصاد العالمي سيستفيد من زيادة اليقين عندما يتعلق الأمر بإعدادات السياسة التجارية”.
وفي تقريرها، قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن أحدث توقعاتها “تستند إلى افتراض رفع التعريفات الجمركية الثنائية بين كندا والولايات المتحدة وبين المكسيك والولايات المتحدة بنسبة 25 نقطة مئوية إضافية على جميع واردات السلع تقريبًا اعتبارًا من أبريل”.
وإذا كانت الزيادات في التعريفات الجمركية أقل، أو تم تطبيقها على عدد أقل من السلع، فإن النشاط الاقتصادي سيكون أقوى وسيكون التضخم أقل من المتوقع، “ولكن النمو العالمي سيظل أضعف مما كان متوقعا في السابق”، كما أشار التقرير.
تباطؤ
من جانبه، يقول استاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، إن التوقعات الحالية تشير إلى أن الاقتصاد الأميركي قد يشهد تباطؤاً في النمو الاقتصادي وزيادة في التقلبات على المدى القريب؛ وذلك بسبب عدة عوامل مؤثرة.
وأشار إلى تخفيض توقعات النمو، خفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعاتها لنمو الاقتصاد الأميركي للعام الجاري 2025 إلى 2.2 بالمئة، مقارنة بتوقعات سابقة بلغت 2.4 بالمئة، مشيرة إلى تأثيرات الرسوم الجمركية المتزايدة على هذا التباطؤ. كما خفض بنك غولدمان ساكس توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي للعام 2025 من 2.4 بالمئة إلى 1.7 بالمئة، مرجعًا ذلك إلى تأثير التعريفات الجمركية على الاقتصاد والمستهلكين.
ويضيف: “إن فرض التعريفات الجمركية الجديدة يؤدي إلى زيادة حالة عدم اليقين في الأسواق، مما يؤثر على ثقة المستهلكين والشركات، والتسبب في تقلبات في الأسواق المالية”.
سيناريوهات متباينة
من جانبه، يشير الخبير الاقتصادي أنور القاسم، إلى أن الاقتصاد الأميركي يواجه عدة سيناريوهات للنمو، مدفوعاً بعوامل متباينة. فمن جهة، يستمر التعافي من آثار جائحة كوفيد-19، لكن بالمقابل، هناك تحديات كبيرة مثل التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، وتراجع التوظيف، وغلاء الأسعار، واضطرابات الأسواق المالية، وربما اختلال سلاسل التوريد، والتي قد تؤثر سلباً على معدلات النمو في المدى القريب والمتوسط.
ويؤكد أنه إذا لم تحدث اضطرابات سياسية، فإن الاقتصاد الأميركي سيواصل تسجيل نمو معتدل في الناتج المحلي الإجمالي، مع تركيز ملحوظ على قطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة، والتي تشهد اهتماماً متزايداً. كما أن الاستثمارات في البنية التحتية، إلى جانب الابتكار، ستلعب دوراً داعماً لهذا النمو.
ومع ذلك، يشدد الخبير الاقتصادي على أهمية متابعة البيانات الاقتصادية والتطورات الجيوسياسية التي قد تؤثر على مسار النمو، والذي قد يدور حول 2.5 بالمئة في أفضل السيناريوهات.