وفي الوقت الذي كانت فيه سياسة رفع الفائدة أداة رئيسية للبنوك المركزية في التصدي للتضخم، إلا أن هذا النجاح لم يكن بدون تكلفة؛ فقد تعرضت الاقتصادات لضغوط نمو ملحوظة مع ارتفاع تكاليف الاقتراض وتباطؤ قطاعات رئيسية، مثل العقارات والإسكان، علاوة على الضغوط التي تعرضت لها الشركات الصغيرة بشكل خاص.
ومع تباطؤ التضخم واقتراب المعدلات من الأهداف المأمولة، بدأت البنوك تعدل مسارها من أجل العودة للتيسير النقدي، وخفض الفائدة. وهو التحول الذي يحمل أبعاداً متعددة، بما في ذلك تحفيز النمو الاقتصادي، خاصة مع مخاوف الركود التي تلوح في الأفق، علاوة على تعزيز ثقة الأسواق.
وفيما قطعت البنوك المركزية شوطاً مهماً في العام 2024 في هذا الاتجاه، فإن غموضاً يلف اتجاهاتها في العام المقبل 2025 في ظل مجموعة من العوامل المؤثرة، بما في ذلك استمرار التوترات في مناطق مثل أوكرانيا والشرق الأوسط، وبما يفرض ضغوطًا إضافية على استقرار الأسواق.
علاوة على السياسات الأميركية وتأثيراتها الممتدة، مع عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتغير السياسات الاقتصادية بشكل جذري؛ لا سيما وأن ترامب معروف بتوجهاته الحمائية، ما قد يؤدي إلى تصاعد النزاعات التجارية وزيادة الضغوط التضخمية العالمية.
هل نجحت سياسة البنوك المركزية؟
من جانبه، قال استاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إنه:
- في ظل استمرار التحديات الاقتصادية العالمية، مثل تأثيرات جائحة كورونا ثم الحرب في أوكرانيا، واضطرابات سلاسل التوريد، لجأت البنوك المركزية حول العالم إلى سياسات نقدية صارمة لمكافحة التضخم، قبل أن تتحول إلى تدريجياً في الفترات الأخيرة لخفض الفائدة.
- السياسات النقدية في العام 2024 أثبتت فعاليتها في خفض التضخم، لكنها جاءت بتكلفة اقتصادية عالية، مثل تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة تكاليف الاقتراض، قبل التحول للتخفيف.
- في 2025 ستسعى البنوك المركزية إلى سياسات أكثر توازناً بين السيطرة على التضخم وتحفيز النمو، لكن الأسواق الناشئة ستبقى عرضة لضغوط كبيرة نتيجة ارتفاع الديون وضعف العملات مقابل الدولار القوي.
وأشار إلى أن سياسة التشديد النقدي التي اتبعتها البنوك المركزية لكبح جماح التضخم أسهمت في خفض معدلات التضخم في بعض الاقتصادات الكبرى، لكنها أبطأت النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ، لا سيما وأن ارتفاع الفائدة يؤدي إلى زيادة تكلفة الاقتراض، ما أثر سلباً على الاستثمارات، وقطاعات حيوية مثل العقارات، كما أثر على الإنفاق الاستهلاكي.
ومع اتجاه البنوك المركزية الكبرى لخفض الفائدة أخيراً، توقع الإدريسي مزيداً من المرونة في 2025، مشيراً إلى أنه من المرجح أن تواصل بعض الاقتصادات الكبرى تخفيف التشدد النقدي تدريجياً مع انحسار معدلات التضخم واستقرار الأسعار.
بالنسبة للأسواق الناشئة، توقع الادريسي استمرار التحديات في تلك الاقتصادات بسبب ارتفاع تكاليف الديون وصعوبة الحصول على تمويل دولي، مما قد يدفعها لتبني سياسات أكثر تشددًا أو طلب دعم من المؤسسات الدولية، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن البنوك المركزية من المهم أن تسعى إلى تحقيق توازن بين السيطرة على التضخم ودعم النمو الاقتصادي، مما قد يؤدي إلى استقرار أو خفض أسعار الفائدة في بعض الحالات.
حالة عدم اليقين
عملياً، من شأن حالة عدم اليقين التي تفرض نفسها على الأسواق أن تضفي مزيداً من التعقيد على مهام البنوك المركزية، وهو ما يلفت إليه تقرير حديث لـ S&P Global، نقل عن الخبير الاقتصادي، كين واتريت، قوله إنه:
- مع حلول العام 2025 فإن التركيز ينصب بشكل مباشر على التحولات السياسية التي ستشهدها الولايات المتحدة بعد الانتخابات وتداعياتها الاقتصادية الأوسع نطاقاً.
- مع توقع توقف دورة تخفيف السياسة النقدية التي يتبناها بنك الاحتياطي الفيدرالي بسبب تجدد الضغوط التضخمية، فإن الظروف المالية العالمية ستكون أقل تيسيراً مما كان متوقعاً في السابق.
- هذا السيناريو يعني مشاكل للنمو الاقتصادي.
وبحسب التقرير، فإنه من المتوقع أن تتجدد الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة في ظل التحولات المتوقعة في السياسة، في حين من المتوقع أن تستمر القوى الانكماشية في أوروبا الغربية والصين.
ويُبرز التقرير اتجاهات التضخم الأساسي في الولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن يظل التضخم في أسعار السلع منخفضا في الأمد القريب جداً، ولكن في حالة زيادة التعريفات الجمركية التي يدفع بها ترامب، فإنها ستمارس ضغوطا تصاعدية في 2025.
ويشار إلى أن أسعار الفائدة بدأت في الانخفاض في عام 2024 ومن المتوقع تخفيضات أخرى في الأسعار في العام 2025، وفقاً لتوقعات لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية في ديسمبر.
وفي أعقاب خفض أسعار الفائدة من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي في ديسمبر وتوقعات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، لا تعكس توقعات السوق أي خفض لأسعار الفائدة في يناير. مع ذلك، لا تزال توقعات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة تعكس احتمال خفض أسعار الفائدة مرتين بنسبة 0.25 بالمئة في عام 2025.
لكن في كثير من الأحيان، تختلف توقعات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة بشكل كبير عن الواقع – وقد يكون هناك سبب لقيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بأكثر من 0.5 بالمئة في العام 2025، بحسب تقرير لفوربس.
تأثير الفيدرالي على البنوك الأخرى
وفي هذا السياق، بحسب تقرير لشبكة “سي إن بي سي” الأميركية، اطلع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عليه، فإن قرار الفيدرالي الأميركي الأخير بخفض الفائدة 25 نقطة مع رفع توقعاته للتضخم والإشارة إلى وتيرة أبطأ لخفض أسعار الفائدة العام المقبل 2025، يترك المستثمرين في حيرة من أمرهم، لجهة تقييم مدى تأثيره على أسعار الفائدة العالمية في المستقبل.
ويشار هنا إلى تصريحات رئيس الفيدرالي، جيروم باول، والذي قال إن التضخم كان يتحرك بشكل عرضي هذا العام، موضحاً أن البنك قد يخفض أسعار الفائدة مرتين فقط في العام المقبل، وهو أقل بمرتين من المتوقع في تقديرات سبتمبر، ما أثار لغطاً في الأسواق.
ووفق التقرير، فإنه رغم إصرار صانعي السياسات النقدية حول العالم على الاستقلال في قراراتهم الخاصة بالسياسة،، فإن قوة الدولار الأميركي على خلفية ارتفاع أسعار الفائدة، وعوامل أخرى من بينها الرسوم الجمركية التي يهدد بها الرئيس المنتخب دونالد ترامب، تجعل آفاق تخفيف السياسات في مختلف أنحاء العالم أكثر غموضاً.
ونقل التقرير عن كبيرة خبراء الاقتصاد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لدى فانغارد، تشيان وانج، قولها:
- “عندما يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر تشددا، فإن هذا سيؤدي إلى قوة الدولار الأميركي وتشديد الظروف المالية العالمية”.
- هذا ينطبق بشكل خاص على العديد من الأسواق الناشئة.. أعتقد بأن البنوك المركزية في آسيا تتجه عموماً نحو التيسير، ولكن نظراً لأن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيظل عند مستويات أعلى لفترة أطول، فسوف يكون هناك مجال أقل للتيسير.
ما المتوقع في 2025؟
خبير أسواق المال، ريمون نبيل، قال لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إنه:
- “في أعقاب قرار الفيدرالي الأميركي خفض الفائدة بمقدار 25 نقطة الأسبوع الماضي، توقعات السياسة النقدية أصبحت أقل مرونة مما كان متوقعاً”.
- السبب يعود إلى أن معدلات التضخم لم تشهد الانخفاض المأمول، بل بدأت تثبت عند مستويات معينة دون تحقيق الهدف النهائي (2 بالمئة).
- كما أن التوترات السياسية العالمية الحالية تضغط على حركة التجارة الدولية، مما قد يؤدي إلى ارتفاع في أسعار النفط وبالتالي ارتفاع التكاليف.
- كل ذلك يشير إلى أن تخفيض السياسة النقدية قد لا يتم بالوتيرة التي كان الفيدرالي قد أعلن عنها مسبقاً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سياسة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تركز دائماً على على قوة الدولار أمام العملات العالمية. وهذا ما شهدناه مؤخراً في ارتفاع مؤشر الدولار عالمياً، بما لذلك من تداعيات على الاقتصادات المختلفة.
وفي ظل هذه المؤشرات، يبدو أن تخفيض الفائدة سيكون محدوداً نسبياً مقارنة بما تم الإعلان عنه، إلا إذا طرأت مفاجآت كبيرة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، مما قد يؤثر بشكل أو بآخرعلى وتيرة خفض الفائدة بصورة أكبر، بحسب نبيل.
في هذا السياق، تشير تقديرات شركة silvercrestgroup، إلى أنه وبينما التضخم يقترب من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإنه من الممكن أن يكون هناك تقدماً ضئيلاً بحلول العام 2025. وفي ظل معطيات من تباطؤ النمو سوف يستمر التضخم في الانخفاض على مدى فترة ثلاث سنوات.
وتبعاً لتلك التوقعات، فمن المتوقع أن تتجه أسعار الفائدة إلى الانخفاض على مدى السنوات الثلاث المقبلة ، في أعقاب مسار التضخم وسياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي.
وفيما يخص العام 2025 تحديداً، تقول الشركة في تقريرها إن متوسط التضخم سيبلغ نحو 2.5 بالمئة، حيث سيتم تعويض الانخفاضات المستمرة جزئياً من خلال دوافع التضخم لمرة واحدة من التعريفات الجمركية التي يتعهد بها الرئيس المنتخب. وعلى مدى الأفق الممتد لثلاث سنوات، سيستمر التضخم في الانخفاض وسيستقر في النهاية عند 2.0 بالمئة (هدف الفيدرالي).