هذه الأزمات، التي تفاقمت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والتوترات التجارية العالمية، ألقت بظلالها على القطاعات الصناعية الرئيسية في ألمانيا، وخصوصاً قطاع الصناعة، الذي يعتبر العمود الفقري للاقتصاد الألماني، حيث شهد تراجعاً ملحوظًا في الإنتاج، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة وتراجع الطلب العالمي.
ورافق تراجع الاقتصاد الألماني تدهور شعبية المستشار الألماني أولاف شولتس، حيث خسر الإثنين تصويتاً على الثقة في البرلمان وهي نتيجة تفسح المجال لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في فبراير المقبل، حيث صوّت 394 نائباً برفض منح الثقة للمستشار الألماني، مقابل 207 نواب أيدوا منحها، في وقت امتنع فيه 116 نائباً عن التصويت، وفقا لما أعلنته رئيسة البوندستاغ (البرلمان) بربل باس.
بدوره، أقر وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك بحاجة ألمانيا إلى أسواق مفتوحة، مشيرا إلى “الوضع الحرج الذي يعاني منه نموذج الأعمال في البلاد. وأشار هابيك في تصريحات صحفية أمس إلى أن “نموذج العمل الألماني يمر بوقت عصيب ويعاني من مأزق حقيقي بجميع الأحوال وحشر في الزاوية”.
وأضاف مرشح حزب الخضر للمنافسة على منصب المستشار هابيك إلى أن “ألمانيا دولة تعتمد على التصدير وتحتاج إلى أسواق مفتوحة”، مشيرا الى أن “الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يغلق الأسواق، والصين تغلق الأسواق مع الترويج لسياراتها الكهربائية في كل مكان وهذه إحدى المشكلات الخطيرة التي تواجه صناعة السيارات الألمانية”.
وأكد هابيك أن “لدينا مشكلة في جاذبية ألمانيا كوجهة لممارسة الأعمال التجارية، لكنها مشكلة قابلة للحل”.
وفي هذا السياق، أظهر مسح الثلاثاء أن ثقة الشركات الألمانية تراجعت بأكثر من المتوقع في ديسمبر الجاري، متأثرة بتقييم سلبي للأشهر المقبلة وسط حالة من الضبابية الجيوسياسية والركود الصناعي في أكبر اقتصاد في أوروبا. وقال معهد إيفو إن مؤشره لمناخ الأعمال انخفض إلى 84.7 نقطة في ديسمبر من 85.6 في نوفمبر.
تحديات قوية
أمام هذه التحديات، تسعى الحكومة الألمانية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإنعاش الاقتصاد، فهل ستنجح في العودة إلى مسار النمو المستدام، أم ستفقد بريقها وتتأثر مكانتها كمحرك للاقتصاد الأوروبي؟ تساؤلات مشروعة تطرح نفسها في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة الاقتصادية العالمية.
وارتفعت تكاليف الطاقة وانخفضت الصادرات، مما جعل الأسر الألمانية أفقر أو أسوأ حالا بحوالي 2500 يورو (2600 دولار) سنوياً، ويهدد التراجع بأن يصبح لا رجعة فيه، فقادة الأعمال يعرفون ذلك، والشعب في البلاد يشعر به، لكن السياسيين لم يقدموا إجابات، وهذا ما وضع أكبر اقتصاد في أوروبا على طريق التراجع”، بحسب تقرير نشرته وكالة “بلومبرغ” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، “
وأوضح التقرير أنه بعد خمس سنوات من الركود، أصبح اقتصاد ألمانيا الآن أصغر بنسبة 5 بالمئة مما كان سيكون عليه لو تم الحفاظ على اتجاه النمو السابق للجائحة، وتقدر “بلومبرغ إيكونوميكس” أن الجزء الأكبر من هذا النقص سيكون من الصعب استعادته، وذلك بسبب الضربات الهيكلية مثل فقدان الطاقة الروسية الرخيصة ونضال فولكس واغن ومرسيدس-بنز لمواكبة شركات السيارات الصينية”.
وقالت إيمي ويب، مؤسسة ورئيسة مجلس إدارة معهد “فيوتشر توداي”، “ألمانيا لا تنهار بين عشية وضحاها. هذا ما يجعل هذا السيناريو مرعبا للغاية. إنها حالة تراجع بطيئة جداً ومطولة جداً. ليس لشركة، وليس لمدينة، ولكن للبلد بأكمله، وتجر أوروبا معها إلى الأسفل”.
وذكر تقرير الوكالة الأميركية “أن سنوات من القرارات السيئة وبعض سوء الحظ دمرت النموذج الاقتصادي الألماني تماماً في الوقت الذي تحتاج فيه بقية أوروبا إلى قوتها الصناعية لمساعدة المنطقة على مواكبة الصين والتعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية”.
وقال يواخيم ناجل، رئيس “البوندسبنك”، في خطاب ألقاه في لوكسمبورغ في وقت سابق من هذا الشهر: “لقد تدهور الوضع التنافسي للصناعة الألمانية، لم توفر الأسواق الخارجية المتنامية دوافع نمو كما كانت تفعل في الماضي”.
ولإحياء القدرة التنافسية، تحتاج ألمانيا إلى إنفاق المزيد. لمجرد اللحاق بالاقتصادات المتقدمة الأخرى، سيتعين على البلاد زيادة الاستثمار السنوي في البنية التحتية وغيرها من السلع العامة بنحو ثلث إلى 160 مليار يورو، وفقاً لـ “بلومبرغ إيكونوميكس”.
نمو بأقل من التقديرات
وبحسب مكتب الإحصاء الألماني، فإن اقتصاد البلاد نما بأقل من التقديرات السابقة في الربع الثالث، ليسجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 0.1 بالمئة خلال الربع الثالث من العام الحالي، في تراجع طفيف عن تقديرات سابقة بنمو قدره 0.2 بالمئة. وكان اقتصاد ألمانيا سجل انكماشاً بنسبة 0.3 بالمئة في عام 2023.
وأشارت تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الحكومة الألمانية عليها اتخاذ تدابير لمواجهة التراجع الاقتصادي في البلاد، حيث قالت خبيرة الصندوق، أويا سيلاسون، “ينبغي أن تكون الاستثمارات العامة في ألمانيا أكبر، لأنها تعد من بين الدول الصناعية التي لديها أدنى معدلات الاستثمار العام”.
ويشار إلى أن ألمانيا تعاني من ضغوط ارتفاع أسعار الطاقة، بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث كانت تعتمد بشكل كبير على إمدادات الطاقة الروسية قبل الحرب. فقد كانت روسيا توفر لألمانيا نحو 60 بالمئة من احتياجاتها من الديزل، وثلث وارداتها من النفط، ونصف وارداتها من الغاز، بالإضافة إلى نصف وارداتها تقريباً من الفحم، لكن روسيا خفضت شحنات الغاز إلى ألمانيا ودول أوروبية أخرى عبر خط أنابيب “نورد ستريم” ثم توقفت رداً على حظر الاتحاد الأوروبي للنفط الروسي، بحسب خبراء طاقة.
تحديات هيكلية وجيوسياسية
في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي أستاذ الاقتصاد بجامعة الزقازيق: “تاريخياً اعتمد الاقتصاد الألماني على مصادر الطاقة الرخيصة والعولمة والتصدير خاصة للأسواق الأميركية والصينية، ورغم ذلك يواجه الاقتصاد الألماني تحديات هيكلية وجيوسياسية تهدد استدامة النمو وإضعاف آفاقه مثل ارتفاع تكاليف الطاقة، رغم ما تملكه ألمانيا من البنية الأساسية عالية التقنية، والعمالة الماهرة”، ويذكر الدكتور الشناوي هذه بعض هذه التحديات وفقاً لمايلي:
- ارتفاع تكاليف الطاقة المؤدية لتناقص مكاسب الإنتاجية
أدى ارتفاع تكاليف الطاقة إلى إضعاف القدرة التنافسية للصناعات الألمانية وبالتالي زيادة تكاليف المدخلات، مما أضعف آفاق قطاع التصنيع الأمر الذي قد يدفع نحو التحول الهيكلي لألمانيا بعيداً عن الاعتماد على النشاط الصناعي إلى الصناعات الخدمية. ووفقاً لمعهد إيفو فإن مساهمة التحول الهيكلي نحو قطاع الخدمات تشكل 40 بالمئة من تباطؤ النمو ومن المتوقع استمرار ألمانيا في التخلف من حيث نمو الإنتاجية مقارنة باقتصادات أخرى.
- نقص الإنفاق الاستثماري
كانت معدلات الاستثمار في ألمانيا من بين أدنى المعدلات في أوروبا على مدى العقد الماضي، وعزفت الحكومات المتعاقبة عن الإنفاق العام، وركزت باستمرار على تشغيل فوائض الميزانية الفيدرالية.
- تدهور الظروف الديموغرافية
من المتوقع انخفاض عدد السكان في سن العمل في ألمانيا بمعدل 0.6 بالمئة سنوياً في الفترة 2024-2050 وفقاً للأمم المتحدة، وقد تم تعزيز سوق العمل على مدى العقد الماضي من قبل المهاجرين، كما قد تشتد تدفقات الهجرة في السنوات القادمة مع تبني الأحزاب الرئيسية لسياسات أكثر صرامة. وتصاعد موجة التقاعد الذي من شأنه أن يضعف بشكل كبير توقعات العرض من العمال.
- اعتماد ألمانيا في تجارتها على الولايات المتحدة والصين
ألمانيا هي الدولة الأكثر اعتماداً على التجارة والاستثمار مع الصين، مما يجعلها في تناقض صارخ مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. تعد الصين رابع أكبر وجهة لصادرات ألمانيا ولكنها أيضاً أكبر شريك استيراد للبلاد، وهذا يفرض تحديات في سياق “إزالة المخاطر” من الصين، وقد تحول الميزان السلعي مع الصين إلى سلبي في السنوات الأخيرة، بسبب التضخم، وارتفعت الدخول الأولية من الصين، والتي تتكون من الأرباح الناتجة عن الاستثمار الأجنبي المباشر الألماني في البلاد، في السنوات الأخيرة بسبب الاستثمارات الألمانية في السوق الصينية.وعلى الرغم من الضغوط التي تبذلها الشركات الألمانية ضد الحواجز التجارية مع الصين، فإن الاتحاد الأوروبي لا يزال مصمما على حماية صناعاته المحلية.
مؤشرات التفاؤل للاقتصاد الألماني
ومع ذلك ورغم كبر التحديات فإن ألمانيا تحتل المرتبة العاشرة بين أفضل المواقع التجارية في العالم، كما أن فعاليتها المؤسسية القوية واستقرارها السياسي الطويل الأمد يدعمان الاستثمار التجاري والعمليات. وكذلك فإنها تقع في قلب الاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر سوق استهلاكية في العالم، بعد الولايات المتحدة. كما تعمل البلاد كمقر لتجمعات صناعية رئيسية تركز على تصنيع الآلات والهندسة الكهربائية والإلكترونيات والمواد الكيميائية وإنتاج السيارات. إلى جانب تمتعها بمكانة جيدة لقيادة التحول الأخضر في أوروبا” بحسب الدكتور الشناوي.
وأضاف: “ومن بين قصص النجاح الأخيرة قرار شركة تسلا ببناء مصنعها العملاق الأوروبي في برلين للاستفادة من مستوى المهارات المحلية العالي وروابط سلسلة التوريد الإقليمية الشاملة. وتشير أحدث اتجاهات الاستثمار المباشر الأجنبي إلى نمو قوي للمشاريع الخضراء والرقمية في ألمانيا. وهناك أيضا فرصة متزايدة لألمانيا لتطوير البنية الأساسية للشركات الناشئة والذكاء الاصطناعي من أجل الاحتفاظ بشكل أفضل بالمواهب في مجال الذكاء الاصطناعي الناشئ”.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى بعض الحلول المقترحة لتجاوز الاقتصاد الألماني أزمته على النحو التالي:
- تعزيز المزيد من الحرية الريادية، وهذا يتطلب ثقة أكبر في المسؤولية الشخصية للشركات، مما يسمح لها بالمرونة اللازمة للابتكار والنمو.
- تعزيز الكفاءة الاقتصادية، ويتعين على المزيد من الشركات أن تعبر عن وجهات نظرها حتى يتسنى خلق ظروف أفضل تدعم النمو واستدامته.
- إرساء التعاون الفعال بين السلطات العامة والشركات أمر بالغ الأهمية، على أن يكون هذا التعاون موجهاً نحو تحقيق النتائج، وأن يتجاوز الإجراءات الإدارية الجامدة إلى التركيز على النتائج العملية.
- ضرورة وجود اقتصاد سوق اجتماعي قوي يعمل فيه السوق الحر جنباً إلى جنب مع دولة الرفاهية الداعمة، وينبغي للدولة أن تتلخص مهمتها في تنظيم النشاط الاقتصادي على النحو الذي يعزز ازدهار جميع المواطنين دون المساس برفاهيتهم.
- ضرورة الاستعداد لمواجهة سياسات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب حال تمسكه بفرض رسوم تجارية وبداية حرب التعريفات الجمركية.
كما يرى الخبير الاقتصادي الشناوي أن هناك أولويات يجب على الائتلاف الحكومي تبنيها لإعادة الاقتصاد الألماني إلى مساره الصحيح، ومنها استقرار التحول في مجال الطاقة، وزيادة مخصصات التمويل الحكومي للصيانة والتوسع والبناء الجديد، وتبسيط ورقمنة عمليات تقديم الطلبات والتوثيق داخل الإدارات العامة. ومن شأن ذلك أن يساعد في تخفيف التأخير في الاستثمارات وتشجيع الشركات على الحفاظ على قدرتها التنافسية في سوق عالمية متزايدة العولمة. مشيراً إلى أن إنشاء هياكل رقمية فعّالة ومصممة لتناسب احتياجات الأعمال يشكل ضرورة أساسية لتعزيز النمو وتحسين مرونة البنية الأساسية.
فقدان ميزة أسعار الطاقة المنخفضة
من جانبه قال مستشار الطاقة الدولي عامر الشوبكي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “إن الاقتصاد الألماني يشهد تدهوراً مستمراً، حيث انكمش بنسبة 0.3 بالمئة في عام 2023. ورغم التوقعات السابقة بتحسن الاقتصاد في عام 2024، تشير المؤشرات الحالية إلى تفاقم الأزمة، مع توقعات بانكماش إضافي هذا العام”.
وأوضح الشوبكي أن العوامل المؤدية إلى هذا التدهور متعددة، من أبرزها فقدان ألمانيا لميزة أسعار الطاقة المنخفضة نتيجة انقطاع إمدادات الغاز الروسي عبر الأنابيب، مما أثّر سلباً على عقيدة الاقتصاد الألماني القائمة على الصادرات والإنتاج الصناعي.
وأضاف: “إن القطاعات الصناعية في ألمانيا عانت بشكل كبير، إلى جانب تأثير الإنفاق المرتفع الذي أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية للطبقة الوسطى، وهي المحرك الأساسي للاقتصاد الألماني”. كما أشار إلى عوامل أخرى تعمق الأزمة، مثل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي استنزفت الموارد الاقتصادية، والحرب في الشرق الأوسط، وأسعار الفائدة المرتفعة التي حدّت بشكل واضح من نمو الاقتصاد الألماني.
ورغم اهتزاز موقع ألمانيا القيادي في أوروبا، لا تزال الفجوة الاقتصادية كبيرة بينها وبين الاقتصادات الأوروبية الأخرى، إذ لا يزال الاقتصاد الألماني الأول في القارة بإجمالي ناتج محلي يبلغ حوالي 4.5 تريليون دولار. ومع ذلك، يرى الشوبكي أن مستقبل الاقتصاد الألماني على المحك، خصوصاً مع عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة ووعوده بفرض رسوم جمركية على الصادرات الألمانية، وهو ما قد يعمق الأزمة الاقتصادية.
وأكد مستشار الطاقة الدولي الشوبكي أن كل هذه العوامل قد تمهد الطريق لصعود اليمين المتطرف إلى الحكم في ألمانيا، لا سيما مع انهيار شعبية حكومة أولاف شولتس، وهو أمر قد يتضح في الانتخابات المقبلة. واختتم بالإشارة إلى أن الأزمات الاقتصادية لم تقتصر على ألمانيا، بل طالت معظم الاقتصادات الأوروبية، بما فيها فرنسا وإيطاليا، التي تواجه تحديات اقتصادية عميقة.