هذه المنافسة تتجاوز حدود التجارة لتلامس أمن الدول وتوازن القوى. إذ تسعى واشنطن لكبح تطلعات بكين في السيطرة على التقنيات المتقدمة، خصوصًا الذكاء الاصطناعي والتطبيقات العسكرية.
الرقائق الإلكترونية، التي تعد أساس الثورة التكنولوجية الحديثة، أصبحت ساحة الصراع الأبرز. بينما تسعى الولايات المتحدة لتقييد وصول الصين إلى الشرائح المتقدمة وفرض ضوابط صارمة على صادراتها، ترد بكين بقيود مضادة على المعادن النادرة الحيوية لهذه الصناعة. ومع تصاعد الإجراءات المتبادلة، يتجلى سباق محموم يحدد معالم الاقتصاد العالمي وموازين القوة في القرن الحادي والعشرين.
تتجاوز هذه المعركة طموحات الهيمنة الاقتصادية، لتكشف عن صراع عميق حول من يمتلك المستقبل، ومن يتمكن من السيطرة على التكنولوجيا التي تشكل أساس الأمن القومي والتقدم البشري.
في هذا السياق، أعلنت الولايات المتحدة، يوم الاثنين، عن جولة أخرى من ضوابط التصدير على صناعة أشباه الموصلات في الصين، وذلك قبل أسابيع من ولاية دونالد ترامب الثانية. وفي اليوم التالي، أعلنت بكين أيضاً عن أنها ستفرض قيودا على تصدير مكوّنات رئيسية في صناعة أشباه الموصلات إلى الولايات المتحدة.
تخطط واشنطن لتقييد الصادرات إلى 140 شركة صينية، بما في ذلك مجموعة ناورا تكنولوجي العملاقة لمعدات الرقائق، بهدف الحد من قدرات الصين المتنامية في مجال الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الدفاع.
وهذه هي الحملة الثالثة التي تشنها الولايات المتحدة على صناعة تصنيع الرقائق في الصين منذ أكتوبر 2022. ومن المقرر أن تؤدي هذه الخطوة أيضاً إلى وقف تصدير رقائق الذاكرة عالية النطاق الترددي، وهي عنصر رئيسي في تطوير رقائق الذكاء الاصطناعي في الصين. وتضم القائمة أيضًا شركتي تصنيع الرقائق SMIC وهواوي.
وقالت وزيرة التجارة الأميركية، جينا رايموندو، للصحافيين من فاينانشال تايمز ونيويورك تايمز وآخرين”إنها أقوى الضوابط التي أقرتها الولايات المتحدة على الإطلاق بهدف تقليص قدرة جمهورية الصين الشعبية على تصنيع أكثر الرقائق تقدمًا التي تستخدمها في تحديث جيشها”.
ولطالما انخرطت الولايات المتحدة في سباق تكنولوجي ضد الصين، التي تعمل على تطوير الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العسكرية بوتيرة سريعة.
ويشير تقرير لـ “بيزنس انسايدر” اطلع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عليه إلى أن العقوبات الأخيرة التي فرضتها إدارة بايدن جزئيا تعود إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي من أن حصول الصين على رقائق عالية الجودة قد يسمح لها بتعزيز تطبيقاتها العسكرية، وخاصة من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي.
وفي الشهر الماضي، ذكرت وكالة رويترز أن باحثين في الصين تابعين لجيش التحرير الشعبي استخدموا نموذج الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر Llama من Meta لتطوير أداة ذكاء اصطناعي يمكن تطبيقها على حالات الاستخدام العسكرية.
وفي حين أن هذه الموجة الأخيرة من التدابير جاءت من إدارة بايدن، فإن بكين تتوقع عقوبات أخرى من ترامب. وقد حاولت الصين تخزين الرقائق من الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة، حيث بلغت المشتريات 1.11 مليار دولار في أكتوبر، وفقًا لتحليل بيانات الجمارك من صحيفة ساوث تشاينا مورنينغ بوست .
تشير التعليقات السابقة لترامب إلى أنه يتفق مع إدارة بايدن عندما يتعلق الأمر بإحباط نمو الذكاء الاصطناعي في الصين. ففي مقابلة في يونيو وصف ترامب الصين بأنها “التهديد الرئيسي” لصناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة. وقال: “يتعين علينا أن نكون في المقدمة”.
وقالت صحيفة فاينانشال تايمز إن هناك بعض الخلافات الداخلية حول النهج المتبع في تقييد مرافق إنتاج شرائح هواوي . ولم يتم تضمين بعض مصانع إنتاج الشرائح التابعة لشركة التكنولوجيا الصينية العملاقة في القائمة، حيث قال أحد الأشخاص المقربين من المناقشات لصحيفة فاينانشال تايمز إنها لم تكن قيد التشغيل، لذلك ليس من الواضح ما إذا كانت ستُستخدم لإنتاج شرائح متقدمة.
الرد الصيني
بكين من جانبها أعلنت عن أنها ستفرض قيودا على تصدير مكوّنات رئيسية في صناعة أشباه الموصلات إلى الولايات المتحدة، بعدما أعلنت واشنطن عن قيود جديدة تستهدف قدرة الصين على صناعة الشرائح الإلكترونية المتطورة.
تشمل المواد التي فرضت عليها القيود معادن الغاليوم والأنتيمون والجرمانيوم التي يمكن استخدامها في تكنولوجيا مزدوجة للاستخدامات المدنية والعسكرية، بحسب ما أفادت وزارة التجارية الصينية في بيان تحدّث عن مخاوف متعلقة بـ”الأمن القومي”. وقالت الوزارة إن صادرات الجرافيت، وهو مكون رئيسي آخر، ستخضع أيضًا “لمراجعات أكثر صرامة للمستهلكين النهائيين والاستخدامات النهائية”.
وشددت بكين على أنه “لحماية مصالح الأمن القومي والوفاء بالالتزامات الدولية مثل منع الانتشار، قررت الصين تعزيز ضوابط التصدير على المواد ذات الاستخدام المزدوج ذات الصلة إلى الولايات المتحدة”.
- تعهدت بكين بسرعة بالدفاع عن مصالحها، قائلة إن الولايات المتحدة “تسيء استخدام تدابير مراقبة الصادرات” و”أعاقت التبادلات الاقتصادية والتجارية الطبيعية”.
- وقالت الصين إن واشنطن “سيَّست وسلحت القضايا الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية” عندما كشفت عن قيود التصدير الخاصة بها.
- كما أفادت بأن هذه الخطوات الأميركية تقيد أيضًا صادرات “المواد ذات الاستخدام المزدوج للمستخدمين العسكريين في الولايات المتحدة أو لأغراض عسكرية”.
فرص وتحديات
قال المستشار الاكاديمي بجامعة سان خوسيه الحكومية في كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن الصين تواجه تحديات معقدة في سعيها لتحقيق الريادة العالمية في قطاع الذكاء الاصطناعي، حيث تحاول الموازنة بين طموحاتها التكنولوجية الضخمة وضغوط المنافسة الجيوسياسية، خاصة مع الولايات المتحدة، موضحاً أن:
- الصين تعمل على على تسريع خطواتها لتصبح مركزاً عالمياً في تطوير الذكاء الاصطناعي، من خلال استثمارات ضخمة في البحث والتطوير.. كما تسعى إلى التركيز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات متنوعة، مثل الصحة والتعليم والمدن الذكية.
- تسعى الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في تطوير التقنيات الأساسية مثل الشرائح الإلكترونية وبرمجيات الذكاء الاصطناعي.. الهدف هو تعزيز الأمن القومي وضمان الاستقرار الاجتماعي عبر تقليل الاعتماد على الموردين الأجانب.
- كما تسعى إلى بناء شراكات استراتيجية مع دول أخرى، خصوصاً في العالم النامي، مع الحفاظ على سيادتها الوطنية.
ويتحدث عن التحديات التي تواجه بكين في هذا السياق، وفي مقدمتها “القيود الأميركية”، ذلك أن الصين تعاني من قيود تصدير تكنولوجيا الشرائح المتقدمة التي تفرضها الولايات المتحدة، مما يحد من قدرتها على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ومن بين التحديات أيضاً ما يرتبط بـ “تطوير البنية التحتية”، إذ تواجه الصين حاجة ملحة لتحسين مراكز البيانات والبنية التحتية الرقمية؛ لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي واسعة النطاق. فضلاً عن التحديات الخاصة بـ “أمن البيانات”، ذلك أن حماية البيانات وضمان استخدامها الآمن باتت من الأولويات مع تزايد اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي. ويشدد على أن التحولات في سوق العمل نتيجة انتشار الذكاء الاصطناعي تتطلب خططاً لإعادة تأهيل القوى العاملة.
ويشير الدكتور بانافع في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى بعض الاستراتيجيات التي يمكن أن تساعد الصين في مواجهة هذه التحديات، من بينها:
- تعزيز البحث والتطوير داخل الصين لتقليل التبعية التكنولوجية.
- بناء شراكات استراتيجية مع دول لا تشكل تهديداً لمصالحها السيادية.
- المشاركة في صياغة المعايير الدولية لاستخدام الذكاء الاصطناعي.
- التركيز على حلول تقنية تعزز الإنتاجية وتحسن الخدمات الاجتماعية.
ويختتم تصريحاته بالإشارة إلى أن نجاح الصين في تحقيق أهدافها يعتمد على رؤية استراتيجية شاملة واستثمار مستدام، موضحاً أن الذكاء الاصطناعي سيكون أحد العوامل الحاسمة في تشكيل التوازنات الجيوسياسيه خلال القرن الحالي.
تحديات غير مسبوقة
بدوره، يقول الخبير التكنولوجي، محمد الحارثي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الصين تواجه تحديات غير مسبوقة في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، حيث تتشابك عوامل الابتكار التكنولوجي مع الضغوط الجيوسياسية المتزايدة؛ فالولايات المتحدة، بوصفها منافسًا رئيسيًا، فرضت قيودًا على تصدير التقنيات المتقدمة، بما في ذلك الرقائق الدقيقة التي تعد العمود الفقري للذكاء الاصطناعي، بهدف إبطاء تطور الصين في هذا القطاع الحيوي.
يضيف الحارثي: بكين تدرك جيدًا أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد صناعة تقنية، بل هو حجر الزاوية لاقتصاد المستقبل وقوة الدولة. لذا، تركز الصين على تحقيق توازن دقيق بين تعزيز استقلالها التكنولوجي وتقليل الاعتماد على الموردين الأجانب من خلال الاستثمار في تطوير سلسلة التوريد المحلية، ودعم الابتكار عبر تمويل الشركات الناشئة والمشاريع البحثية، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص. وفي الوقت نفسه، تبقي بكين سيطرة محكمة على كيفية استخدام وتطوير الذكاء الاصطناعي داخليًا، خاصة في المجالات الحساسة كالأمن والمراقبة.
ويوضح أن هذا المسار ليس خاليًا من المخاطر. فالقيود المتزايدة على التكنولوجيا قد تبطئ بعض التطورات، في حين أن التركيز المفرط على السيطرة قد يحد من حرية الابتكار. ومع ذلك، يبدو أن الصين مصممة على إيجاد صيغة فريدة تضمن لها التفوق التكنولوجي دون المساس بأمنها القومي أو قدرتها على المنافسة عالميًا، مما يجعل رحلتها في الذكاء الاصطناعي محط أنظار العالم.
سباق تطوير الذكاء الاصطناعي الفائق
في سياق متصل، يشهد العالم سباقًا محمومًا بين الولايات المتحدة والصين لتطوير ذكاء اصطناعي عام (AGI) يتفوق على القدرات البشرية.
هذا التقدم، رغم إمكانياته الهائلة، يثير مخاوف تتعلق بالسيطرة والتحكم، خاصة في الصين حيث يحكم الحزب الشيوعي قبضته على ثاني أكبر اقتصاد في العالم، طبقاً للعالم ماكس تيجمارك، المتخصص في الذكاء الاصطناعي، والذي يصف هذا السباق بـ”سباق الانتحار”، مشيرًا إلى أن السعي وراء هذا النوع من الذكاء قد يخرج عن السيطرة، حسب ما نقلته شبكة “سي إن بي سي” الأميركية في تقرير لها اطلع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عليه.
- لا يوجد تعريف دقيق للذكاء الاصطناعي العام، لكنه يُعرف عمومًا بأنه نظام ذكاء اصطناعي يمكنه تجاوز القدرات البشرية.
- تطبيقات مثل ChatGPT تمثل المستوى الأولي لهذا المجال، لكن السباق الحقيقي يتمحور حول تطوير ذكاء يمتلك قدرة شبيهة بالبشر، أو حتى أكثر تطورًا.
- توقع سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، إمكانية تحقيق AGI بحلول عام 2025، وهو توقع يثير الانقسام بين الخبراء.
يرى تيجمارك أن السعي لبناء AGI يتسم بطابع “وهمي”، موضحًا أن “الحرب الجيوسياسية لبناء AGI هي حرب وهمية لأنها مدفوعة بأمل زائف بالقدرة على السيطرة عليه”. في هذا السياق، دعا إلى التوقف مؤقتًا عن تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة لحين وضع لوائح تنظيمية، في ظل القلق من المخاطر الناجمة عن أنظمة قادرة على التفوق على البشر دون وجود أدوات تحكم فعالة.
ورغم أن الصين تعد الذكاء الاصطناعي أولوية استراتيجية، إلا أن تيجمارك يشير إلى أن بكين قد لا تكون متحمسة لتطوير AGI ، وروى قصة اجتماع عقده الرئيس التنفيذي لشركة تسلا إيلون ماسك مع مسؤولين صينيين عام 2023، حيث حذرهم من أن AGI قد ينزع السيطرة من الحزب الشيوعي. أثار التحذير ردود فعل قوية، تبعها إصدار الصين لأول لوائح لتنظيم الذكاء الاصطناعي.
ووفق التقرير، فإن الصين تخرص على موازنة الابتكار مع الحفاظ على سيطرة الحزب، موضحاً أن شركات عملاقة مثل Alibaba وHuawei تعمل على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة، في حين أن الإنترنت في الصين يخضع لرقابة مشددة تمنع تداول أي معلومات تتعارض مع أيديولوجية الحزب. ومع ذلك، يشير بعض المحللين إلى أن الصين ستسعى للهيمنة على مجال AGI مع وضع قيود داخلية تمنع الاستخدامات التي تهدد السلطة.
وبينما تحاول الولايات المتحدة كبح وصول الصين إلى التقنيات المتقدمة، مثل أشباه الموصلات المستخدمة في تدريب النماذج الذكية، تركز الصين على تطوير صناعات محلية لتقليل الاعتماد على الخارج. ويرى بعض الخبراء أن الصين تنظر إلى الذكاء الاصطناعي من خلال عدستين: تعزيز النفوذ الجيوسياسي ودعم النمو الداخلي عبر تحسين كفاءة الحكومة وتطبيقات الأعمال.
مخاوف
ومع اقتراب تحقيق AGI، تتزايد المخاوف بشأن مخاطره، خاصة إذا تمكن من تحسين نفسه ذاتيًا. يرى تيجمارك أن المخاوف المشتركة قد تدفع كل من الولايات المتحدة والصين إلى وضع معايير سلامة وطنية لحماية نفسها، دون اعتبار للتنافس بينهما. وبمجرد وضع هذه المعايير، قد يكون هناك دافع للتعاون الدولي لضمان عدم تطوير AGI في دول أخرى مثل كوريا الشمالية.
وهناك جهود بالفعل للتوصل إلى تنظيم مشترك. في عام 2023، استضافت المملكة المتحدة قمة حول سلامة الذكاء الاصطناعي شاركت فيها الولايات المتحدة والصين. كما أقر الاتحاد الأوروبي قانونًا لتنظيم الذكاء الاصطناعي، في حين طورت الصين لوائحها الخاصة. ومع ذلك، لا تزال الجهود الدولية متفرقة.
ويشير تيجمارك إلى أن التعاون بين الدول قد يصبح ضرورة عندما تتجاوز مخاطر المنافسة الفوائد. اقترحت بعض الشخصيات الصينية إنشاء هيئة حوكمة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة، مشابهة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما يعكس رغبة الصين في قيادة الجهود العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي.