في عصر نشهد فيه اعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي وانتشارها على نطاق واسع في مختلف القطاعات، لا بد لنا من السعي إلى العثور على سبل أكثر كفاءة وفعالية لاستهلاك الطاقة. ففي السنوات الأخيرة، شهدت مراكز البيانات التي تعتمد أكثر فأكثر على تقنيات الذكاء الاصطناعي ارتفاعاً حاداً في معدلات استهلاك الطاقة، حتى أصبحت تساهم بدرجة كبيرة في معدلات استهلاك الطاقة والانبعاثات على الصعيد العالمي.
فوفقاً لتقرير صادر عن شركة “ماكينزي” في سبتمبر 2024، من المتوقع أن تشهد مراكز البيانات في الولايات المتحدة الأميركية (باستثناء مراكز العملات المشفرة) نمواً بمقدار 3 أضعاف في احتياجاتها المتعلقة بالطاقة بحلول نهاية هذا العقد ، وأن نشهد أيضاً ارتفاعاً مماثلاً في الطلب على الطاقة في مناطق أخرى من العالم.
على الرغم من ذلك، فإن الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي قد تحمل المفتاح لمعالجة أكبر معضلات العصر. فكيف يمكننا أن نستمرّ في تطوير واستخدام نماذج قوية قائمة على الذكاء الاصطناعي وأن نساهم في الوقت نفسه في بناء اقتصادات مستدامة خالية من الكربون؟
تعتمد جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي مقاربة متعددة الجوانب في الأبحاث التي تجريها لمواجهة هذا التحدي العالمي.
فالباحثون في الجامعة يركزون على محاور بحثية متعددة، منها وحدات معالجة الرسومات ووحدات معالجة الموتّر. فهياكل الحوسبة التقليدية، كوحدات المعالجة المركزية، لا تتمتّع بكفاءة كافية لتشغيل تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما أدى إلى استحداث وحدات معالجة الرسومات ووحدات معالجة الموتّر كأدوات متخصصة مصممة لتلبية متطلبات تشغيل تقنيات الذكاء الاصطناعي وتنفيذ عمليات المعالجة المترتبة عنه. وتجدر الإشارة إلى أنّ وحدات معالجة الرسومات ووحدات معالجة الموتّر تشكّل حجر الأساس للذكاء الاصطناعي. وأن مراكز البيانات الحالية تستخدم عشرات الآلاف منها. بالتالي، سيتطلّب تشغيل الجيل الجديد من مراكز البيانات التي يتم بناؤها حالياً أعداداً أكبر من تلك الوحدات. وبغية تحقيق استمرارية ثورة الذكاء الاصطناعي، لا بد من العمل على تطوير هذه الأجهزة بطرق تضمن توفير الطاقة وتحسين أداء معالِجاتها بأقل طاقة ممكنة.
من هنا تبرز أهمية تصميم أجهزة مخصّصة للذكاء الاصطناعي (كوحدات معالجة الرسومات أو وحدات معالجة الموتّر) وتكون قادرة على توفير الطاقة، إذ من شأنها أن تساهم في تعزيز كفاءة مراكز البيانات في استهلاك الطاقة، ولا سيما المراكز التي تدير أعداداً متزايدة من العمليات الحسابية المعقّدة والمتشعبة، وذلك بهدف تطوير مكوّنات فردية ومواءمة تصاميمها للحد من استهلاك الطاقة على مستوى الأجهزة من دون أن يؤثر ذلك على أداء البرمجيّات.
وكلما تعمّقنا في البحث عن طرق لتحسين هيكلية الأجهزة، كلما وجدنا المزيد من الحلول التي من شأنها أن تعالج هذه المشكلة من جذورها.
إذ تُعرَف أصغر وحدة حاملة أو ناقلة للمعلومات في جميع عمليات الحوسبة باسم “البِتّ”، وهو عبارة عن رقم في نظام العد الثنائي له قيمتين محتملتين:1 أو 0. ومن شأن العثور على طريقة للحفاظ على الطاقة المستهلكة لتخزين واسترجاع ومعالجة القيمتين 1 و0 في عمليات الحوسبة أن يحدّ من هدر الطاقة والحرارة، ويسرّع عمليات المعالجة، ويعزز في الوقت نفسه من الكفاءة في استهلاك الطاقة. إذ تساهم إزالة البِتّات “غير الضرورية” في عمليات الحوسبة المكلفة (من خلال التكميم أو التقليم) بشكل كبير في معالجة المشاكل المرتبطة بالكفاءة في استهلاك الطاقة. وتجدر الإشارة إلى أنّ التحدي يكمن في إعادة تصميم الأجهزة وتعزيز كفاءتها من دون المساس بإمكاناتها الحوسبيّة ودقتها.
أما في ما يتعلق بتقنيات الترانزستورات التي تشهد تطوّراً مستمراً ويصغر حجمها أكثر فأكثر، فلا بد من ضمان موثوقيتها تفادياً لوقوع أي أخطاء. فلطالما طرحت الأخطاء التي تطرأ في الأجهزة مشكلة للشركات الكبرى، مثل “غوغل” و”ميتا” ، التي تدير مراكز بيانات كبيرة. فمن شأن بناء معالِجات موثوقة أن يعالج المشاكل المرتبطة بالكفاءة في استهلاك الطاقة وأن يساعد أيضاً في بناء مستقبل مستدام. فكلما طالت فترة استخدام المعالِجات في مراكز البيانات، أي كلما زادت موثوقيتها، انخفضت بصمتها الكربونية، وذلك لأنّ بناء هذه المعالِجات يحتم دفع تكاليف أولية هائلة.
إضافة إلى ذلك، تشكّل مصفوفة البوابات المنطقية القابلة للبرمجة في الميدان حلاً بديلاً آخر يقوم على إتاحة أجهزة قابلة للتخصيص والتعديل ومصممة لأداء مهام محددة قائمة على الذكاء الاصطناعي. تساعد هذه المصفوفة المطوّرين على تحسين الدوائر الكهربائية في الأجهزة من أجل تطبيقات مختلفة، ما يساهم في الحد من الطاقة التي تستهلكها وفي الحفاظ على أدائها العالي.
لا بد من الإشارة إلى أن جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تبحث أيضاً عن سبل للحد من الهدر، وتوزيع الموارد بكفاءة أكبر في الطبقات العليا، وتعزيز استدامة عمليات تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها.
فعلى سبيل المثال، لا بد من مواءمة برمجيات النظام المستخدمة في مرحلة تدريب واستدلال النماذج اللغوية الكبيرة بشكل وثيق مع تصميم الجهاز، وذلك من أجل تعزيز كفاءتها في استهلاك الطاقة.
تنقسم الأبحاث التي يجريها الباحثون في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي حالياً بهدف تحقيق استدامة أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى شقّين. يتمثل الشق الأول في تحسين مهام تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتوزيعها من خلال مشغّلات متداخلة مكثفة باستخدام موارد غير متجانسة في خادم وحدة معالجة الرسومات، بما في ذلك على سبيل المثال استخدام عمليات ضرب المصفوفات التي تتطلب حوسبة مكثفة مع عمليات الاتصال التي تتطلب شبكة مكثفة، وذلك من أجل تحسين أداء الأنظمة واستخدام الموارد المتاحة بكفاءة أكبر.
أما الشق الثاني، فيتمثل في العمل على الحد من عمليات الحوسبة التي تحصل في مرحلة استدلال نماذج الذكاء الاصطناعي، وذلك من خلال نشر نماذج قابلة للتعديل وأصغر حجماً وأكثر تخصصاً وفعالية، ومن خلال تخزين الإجابات (أو النتائج الوسيطة في عملية الاستدلال التي أدت إلى تلك الإجابات) في النموذج بشكل مؤقت من أجل الاستفادة منها في معالجة المهام المشابهة.
في نهاية المطاف، كلما تطوّرت تقنيات الذكاء الاصطناعي، كلما زادت الحاجة إلى إيجاد حلول تحد من استخدام الطاقة. ويمكن للمؤسسات الطموحة في دولة الإمارات أن تستفيد من الهياكل الحاسوبية المتخصصة وأن تعتمد أيضاً برمجيات بتصاميم مبتكرة من أجل الحد بشكل ملحوظ من معدلات استخدام الطاقة التي تتطلبها تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ما يسهم في تخفيف أثرها البيئي ويعزز في الوقت نفسه من جدواها الاقتصادية وإمكانية تبنّيها على نطاق أوسع، ويساهم بالتالي في تحقيق أهداف الاستدامة في إطار رؤية الدولة المستقبلية.