عبر العقود ظهرت نماذج متعددة لتوصيف دورات الاقتصاد، حاول الخبراء من خلالها اختصار التقلبات الضخمة في رموز قريبة إلى الذهن. هذه الرموز لا تهدف فقط إلى تسهيل القراءة، بل تمنح المستثمرين وصناع السياسات تصورًا أوضح لمسارات الصعود والهبوط، ولما إذا كانت الاقتصادات تتعافى بوتيرة متناسقة أو تتجه نحو انقسام داخلي.
وفي هذا السياق، ذكر تقرير عبر منصة deseret أن:
- استخدام الأحرف كرموز لوصف الأوضاع الاقتصادية يُعدّ ممارسةً راسخة، تشمل: الانكماش الحاد على شكل حرف L، والذي يتبعه ركود طويل الأمد؛
- الانكماش الحاد على شكل حرف V، والذي يتبعه انتعاش قوي.
- الانكماش الحاد على شكل حرف W، المعروف أيضًا بالانكماش المزدوج، حيث يتبع الركود انتعاش ثم انكماش ثانوي.
- الانكماش الحاد على شكل حرف U، والذي يتبعه ركود ثم فترة ركود تليها انتعاش تدريجي.
- يُعد الشكل K أحدث إضافة إلى معجم الحروف الاقتصادية، وينسب على نطاق واسع إلى الخبير الاقتصادي الأميركي وأستاذ جامعة ويليام وماري بيتر أتووتر الذي صاغ المصطلح في عام 2020.
- استخدم أتووتر شكل K لوصف الانقسام الاقتصادي الذي حدث وسط ظروف الوباء حيث تمكن العاملون ذوو الياقات البيضاء من الانتقال إلى مهام العمل من المنزل بسهولة نسبية والحفاظ على دخلهم، بينما عانى العمال ذوو الياقات الزرقاء، الذين تتطلب وظائفهم في الغالب التواجد الشخصي، من آثار اقتصادية شديدة.
يمثل منحنى K الآن فجوة أوسع بين الأغنياء والفقراء في الاقتصاد الأميركي الحالي، حيث يزدهر الأميركيون ذوو الدخل المرتفع، المُمثلون بالجزء العلوي من المنحنى، مع تزايد ثرواتهم المُستثمرة في الغالب في الأسهم والعقارات. في المقابل، تتجه معظم الأسر الأميركية نحو الجزء السفلي من المنحنى، حيث يدفع التضخم وارتفاع تكاليف السكن وتباطؤ نمو الأجور أصحاب الدخل المنخفض إلى أوضاع اقتصادية أكثر تدهوراً.
نماذج التعافي الاقتصادي
يقول المدير التنفيذي لشركة VI Markets، أحمد معطي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- الفارق بين نماذج التعافي الاقتصادي كبير للغاية.. والأسوأ على الإطلاق للاقتصاد هو نموذج التعافي على شكل حرف K.
- هذا الشكل يعني ببساطة أن “الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقراً”، إذ تتحسن أوضاع فئة صغيرة فقط في المجتمع بينما تتراجع أوضاع الأغلبية، وهو ما يوسّع الفجوة الاجتماعية ويخلق اقتصادًا هشًا يعتمد على إنفاق شريحة محدودة من المواطنين.
- الاقتصاد الأميركي، بحسب إشارات جيروم باول مؤخرًا، يسير بالفعل في مسار يشبه حرف K، وهو ما كانت التحليلات تشير إليه منذ فترة.
- استمرار هذا النموذج يُنذر بمشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة على المدى المتوسط والبعيد، لأنه يؤدي إلى “انفجار غضب الطبقات الفقيرة” ويزيد من معدلات البطالة والمشكلات الأسرية والجريمة.
ويتابع قائلاً إن الاقتصاد العالمي كان خلال العامين الماضيين أقرب إلى شكل حرف V، وهو نموذج يشير إلى تراجع اقتصادي حاد يتبعه تعافٍ سريع، حيث يشهد الاقتصاد ربعين متتاليين من الانكماش ثم ربعين من النمو، وهو ما يُعد مؤشرًا إيجابيًا على سرعة العودة للنشاط.
أما نموذج حرف K فهو “الأكثر خطورة”؛ لأنه يعني أن التعافي غير متوازن، ويهدد الاستقرار الاقتصادي إذا استمر دون حلول جذرية.
ويشير معطي إلى أن اجتماع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأخير تضمن رؤى إيجابية نسبيًا للعام 2026، حيث توقع الفيدرالي ارتفاعًا محدودًا في النمو وتراجعًا طفيفًا في البطالة والتضخم مقارنة بعام 2025، ورغم أن التحسن طفيف فإنه يُعد جيدًا في ظل التوترات الجيوسياسية والرسوم الجمركية.
ومع ذلك، يشدد على أن وضع الاقتصاد الأميركي ما زال “متماسكًا بحذر”، لافتًا إلى أن أي صدمة اقتصادية حتى ولو بسيطة قد تتسبب في “انفجار الأرقام دفعة واحدة”. ويوضح أن هذا التماسك يعتمد على عدة عوامل حساسة، منها إبقاء أسعار النفط منخفضة عبر زيادة الإنتاج، والضخ الكبير في استثمارات الذكاء الاصطناعي، وضخ السيولة لإنقاذ البنوك.
ويشير إلى أن الفيدرالي الأميركي يعوّل بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي في زيادة الإنتاجية وتحقيق النمو خلال المرحلة المقبلة، وهو رهان قد يتحول إلى “تأثير الدومينو” إذا لم تتحقق العوائد المتوقعة من هذا القطاع الحيوي.
تأثير السياسات الاقتصادية
في السياق، ينقل تقرير لـ “يو إس إيه توداي” عن كبيرة الاقتصاديين في شركة KPMG US، ديان سوانك، قولها إن ظاهرة شكل K، بالإضافة إلى المساعدة في تفسير سبب شعور العديد من الأميركيين بأنهم يتخلفون عن الركب، هي بمثابة تذكير بأن للسياسات الاقتصادية تأثيرات حقيقية على الحياة، وتحذير من أن التباين بين ثروات الأشخاص الأكثر ثراءً وبقية البلاد ليس أمراً صحياً.
ويلفت التقرير إلى “معامل جيني” وهو هو تحليل فني للفجوة بين الأغنياء والفقراء، موضحاً: “إن عدم المساواة، كما يقيسها معامل جيني، بلغ ثاني أعلى مستوى له على الإطلاق”، وقالت سوانك. “إنه مستوى أكثر تآكلاً من كونه مساعداً على النمو”.
لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الأمثلة الواقعية على الفجوة المتزايدة بين الأميركيين الأثرياء وذوي الدخل المنخفض موجودة في كل مكان.
عدالة توزيع النمو
من جانبه، يؤكد خبير أسواق المال محمد سعيد، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- الفرق الجوهري بين التعافي الاقتصادي على شكل حرف V والتعافي على شكل حرف K يكمن ببساطة في عدالة توزيع النمو ومدى شمولية الانتعاش لمختلف القطاعات والفئات داخل المجتمع.
- التعافي على شكل V هو السيناريو المثالي الذي تتطلع إليه الاقتصادات عقب الأزمات، حيث يحدث هبوط حاد وسريع بفعل صدمة مؤقتة، يعقبه صعود قوي يعيد المؤشرات الاقتصادية إلى مستوياتها الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن.
- في هذا النمط، تتعافى القطاعات كافة بالمعدل نفسه تقريباً، مما يحافظ على التوازن الاجتماعي ويحدّ من الفوارق الطبقية، لأن ثمار الانتعاش تطال الجميع وتعود الوظائف سريعاً إلى طبيعتها.
- على النقيض من ذلك، فإن التعافي على شكل K يعكس صورة أكثر تعقيداً وقسوة، إذ ينقسم مسار الاقتصاد بعد الأزمة إلى اتجاهين مختلفين تماماً يشبهان طرفي حرف K.
- الذراع العلوي يمثل القطاعات والفئات التي تنطلق نحو النمو والازدهار وتستفيد من الأزمة، بينما يمثل الذراع السفلى قطاعات أخرى تغرق في الركود أو تتعافى ببطء شديد، مما يؤدي إلى اتساع فجوة الدخل والثروة وتعاظم الشعور بعدم المساواة داخل المجتمع الواحد.
ويضيف سعيد أنه عند تطبيق هذه المفاهيم على الاقتصاد الأميركي في نهاية عام 2025، يتضح أن المشهد يميل بوضوح شديد إلى نمط التعافي على شكل K وليس V. فالأرقام الكلية قد تبدو إيجابية عند النظرة السطحية، إذ يسجل الناتج المحلي نمواً، وتواصل أسواق الأسهم تحطيم مستويات قياسية مدفوعة بطفرة استثمارات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا التي تجاوزت مئات المليارات. وهذا يمثل الذراع الصاعد بقوة، حيث تزيد ثروات أصحاب الأصول المالية وترتفع مستويات إنفاق الشرائح العليا التي باتت تسيطر على ما يقارب نصف الاستهلاك الكلي.
في المقابل، يوضح سعيد أن الذراع الهابطة تظهر جلياً في معاناة الاقتصاد الحقيقي والطبقات المتوسطة والفقيرة؛ إذ تتعرض قطاعات مثل الصناعة والضيافة والإنشاءات لرياح معاكسة قوية، وتعيش حالة من الانكماش أو التباطؤ. كما أدى التضخم المستمر وارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار الفائدة الضاغطة إلى تآكل القوة الشرائية للأسر، ما دفع شريحة واسعة لتقليص نفقاتها أو اللجوء للديون الائتمانية. وهذا التباين خلق حالة من التشاؤم لدى ملايين الأمريكيين الذين يشعرون بأن الاقتصاد لا يخدمهم، رغم الأرقام اللامعة في أسواق المال.
ويختتم خبير أسواق المال محمد سعيد تصريحه قائلاً إن الاقتصاد الأميركي يعيش حالياً حالة انفصال واضحة بين اقتصاد المال والتكنولوجيا الذي يحقق قفزات هائلة، وبين الاقتصاد الحقيقي للأسر العاملة والقطاعات التقليدية الذي يواجه ضغوطاً تشبه الركود. ويحذر من أن هذا الشكل غير المتوازن من التعافي يجعل الاقتصاد أكثر هشاشة، لأنه يعتمد على ساق واحدة قوية بينما الأخرى تترنح، مما قد يضعه أمام مخاطر كبيرة في حال تعرض قطاع التكنولوجيا لأي هزة مفاجئة.


