بين مخاوف الركود، وضغوط الديون، واضطراب سلاسل الإمداد، باتت استثمارات التكنولوجيا المتقدمة تمثل رهانًا استراتيجيًا لإنقاذ الزخم الاقتصادي، لا سيما في الاقتصادات الكبرى.
تحولت طفرة الذكاء الاصطناعي إلى عامل مؤثر في معادلات النمو العالمية، يغيّر اتجاهات الاستثمار، ويعيد رسم أولويات الشركات، ويؤثر بشكل مباشر في مؤشرات الإنتاجية والتوظيف. وهو التحول الذي يضع الاقتصاد العالمي أمام اختبار حقيقي: هل تنجح هذه الطفرة في تعويض ضعف القطاعات التقليدية، أم أنها ستظل محصورة في نطاق ضيق من الشركات والدول؟
في هذا السياق، قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن:
- الاقتصاد الأميركي والعالمي من المقرر أن يتباطأ العام المقبل مع دخول الرسوم الجمركية المرتفعة حيز التنفيذ بالكامل، لكنه قد ينمو بقوة أكبر من المتوقع إذا اتسع نطاق طفرة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي.
- في تقرير ربع سنوي صدر يوم الثلاثاء الماضي، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومقرها باريس، أن ينمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 2 بالمئة هذا العام و1.7 بالمئة العام المقبل، بعد أن توسع بنسبة 2.8 بالمئة في عام 2024.
- في سبتمبر، توقعت المنظمة نموًا بنسبة 1.8 بالمئة هذا العام و1.5 بالمئة في عام 2026. وتتوقع المنظمة أن يستعيد أكبر اقتصاد في العالم زخمه في عام 2027، بنمو قدره 1.9 بالمئة.
- رغم هذا التحسن في معظمه، لا يزال من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.9 بالمئة العام المقبل، وهو تباطؤ مقارنة بـ 3.2 بالمئة هذا العام.
- إلا أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حذّرت من أن التباطؤ قد يكون أشد إذا أُضيفت قيود جديدة على صادرات السلع الأساسية، مثل المعادن النادرة ورقائق الحاسوب المتقدمة، إلى جانب الرسوم الجمركية المرتفعة.
ووفق صحيفة وول ستريت جورنال، فقد ساعد ازدهار الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في دعم النمو الاقتصادي الأميركي هذا العام، كما ساعد في تعزيز نمو البلدان التي لديها تصنيع كبير لمعدات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان وتايوان.
وتقول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن الاقتصاد العالمي ربما ينمو بسرعة أكبر مما تتوقعه في العام المقبل إذا امتد هذا النمو إلى اقتصادات كبيرة أخرى، مثل تلك الموجودة في أوروبا والتي لم تحظ بالفرصة حتى الآن.
وأضافت أن “الزخم القوي في الاستثمار المرتبط بالذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة قد يمتد إلى اقتصادات رئيسية أخرى، مما يعزز الإنفاق الحالي ويزيد من نمو الإنتاجية في المستقبل”.
وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يستمر نمو الاستثمار الأميركي في الذكاء الاصطناعي في العام المقبل، وإن كان بوتيرة أبطأ.
بحسب المنظمة، فإنه:
- “من الواضح أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي كان محركًا رئيسيًا للنمو هذا العام، ونتوقع أن يستمر هذا الوضع”.
- “في الوقت نفسه، نعتقد أن وتيرة نمو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ستتراجع إلى حد ما عن المعدلات المرتفعة للغاية التي شهدناها خلال العام الماضي أو نحو ذلك”.
ورغم أن زيادة مستويات الاستثمار من جانب الشركات لتطوير وتنفيذ الذكاء الاصطناعي قد تعزز النمو خلال السنوات المقبلة، حذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن ارتفاع الدين الحكومي قد يكون له تأثير معاكس.
محرك للنمو
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- الاستثمار في الذكاء الاصطناعي أصبح أحد أهم المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي، بل وأحد أبرز العوامل التي تسهم في تجنب الركود الاقتصادي.
- بيانات وزارة الخزانة الأميركية تُظهر أن الاقتصاد الأميركي خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025 استفاد بشكل مباشر من الاستثمارات الضخمة في قطاع الذكاء الاصطناعي، حيث انخفضت احتمالات دخول الاقتصاد في ركود.
- الأرقام تعكس بوضوح مدى أهمية هذه الاستثمارات في تحفيز الاقتصاد، خصوصًا في الولايات المتحدة.
- الذكاء الاصطناعي يسهم بشكل مباشر في توسع الشركات، وخلق فرص أعمال جديدة، ورفع مستويات الإنتاجية، رغم وجود بعض التأثيرات السلبية المحتملة على سوق العمل نتيجة الاستغناء عن بعض الوظائف التقليدية.
ويتابع: “الدور الاقتصادي للذكاء الاصطناعي في المرحلة الحالية يُعد داعمًا رئيسيًا للنمو”، مستشهدًا بتصريحات سابقة للملياردير الأميركي إيلون ماسك أكد فيها أن الذكاء الاصطناعي سيكون أحد أهم العوامل المساندة للنمو الاقتصادي الأميركي في المستقبل، نظرًا لدوره في تعزيز الإنتاجية.
ويؤكد أن هذه الفرضية أصبحت واقعًا ملموسًا خلال النصف الأول من عام 2025، ومن المتوقع أن تستمر حتى نهاية العام وكذلك في السنوات المقبلة، مشددًا على أن موجة الاستثمارات الضخمة والاندفاع الكبير نحو الذكاء الاصطناعي تمثل محركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي عالميًا.
ويختتم بالقول إن الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على الولايات المتحدة فقط، بل تمتد إلى اليابان والصين وأوروبا، رغم أن الأخيرة لا تزال متأخرة نسبيًا، لكنها حاضرة بقوة، معتبرًا أن قطاع الذكاء الاصطناعي سيظل الداعم الرئيسي للنمو الاقتصادي خلال السنوات القادمة، وسيعوض أي تباطؤ محتمل في القطاعات الاقتصادية الأخرى، سواء في القطاع الصناعي أو غيره.
استثمارات ضخمة
يشير تقرير لـ ” دويتشه بنك” إلى أن:
- الذكاء الاصطناعي لا يزال محركًا رئيسيًا للنمو، مع استثمارات ضخمة تُركّز بشكل رئيسي في الولايات المتحدة والصين.
- يوضح كبير مسؤولي الاستثمار العالمي في دويتشه بنك، كريستيان نولتينغ أن “الذكاء الاصطناعي عاملٌ يُغيّر قواعد اللعبة، وسيظل محورًا للنمو الهيكلي في عام 2026”.
- في الوقت نفسه، يحثّ على توخي الحذر، قائلاً: “قد يُخفّف الاستثمار المفرط ونقص الكهرباء من التوقعات”.
بحسب البنك، فإنه من المرجح أن يُرسّخ التحول الهيكلي الذي يُحركه الذكاء الاصطناعي مكانته كمحرك رئيسي للنمو، مُقدّمًا للمستثمرين مجموعة واسعة من فرص الاستثمار. وفي ظل بيئة مُعقّدة، يرى خبراء البنك أن الإدارة الفعّالة للمخاطر والاستثمار المُوجّه، بما يتجاوز فئات الأصول التقليدية، سيكونان حاسمين لضمان توزيع مستقرّ وقويّ للأصول.
الرهان على الـ AI
بدوره، يقول خبير أسواق المال والعضو المنتدب لشركة أي دي تي للاستشارات والنظم التكنولوجية، محمد سعيد:
- المشهد الاقتصادي العالمي يشهد اليوم حالة من الترقب الحذر، في ظل مؤشرات واضحة على تباطؤ النمو وظهور تحديات هيكلية متزايدة، ما يجعل البحث عن محركات جديدة للدفع الاقتصادي ضرورة ملحة لا ترفاً.
- استثمارات الذكاء الاصطناعي برزت كلاعب أساسي، وربما وحيد حالياً، في ساحة الاستثمار العالمي، لتؤدي دور “الدرع الواقي” الذي يخفف من وطأة الصدمات الاقتصادية.
- هذه الاستثمارات نجحت بالفعل، وبصورة لافتة، في دعم الاقتصادات المتقدمة، وعلى رأسها الاقتصاد الأميركي خلال الفترة الأخيرة، حيث أسهم الإنفاق الرأسمالي الضخم من قبل عمالقة التكنولوجيا، وبناء مراكز البيانات، في تعويض الضعف الذي أصاب قطاعات تقليدية مثل التصنيع والعقارات، الأمر الذي أبقى معدلات النمو ضمن النطاق الآمن، وساعد على تجنب الانزلاق نحو ركود أعمق.
ويوضح أن فلسفة الرهان على الذكاء الاصطناعي لتخفيف آثار التباطؤ الاقتصادي تقوم على قدرته الفائقة على العمل كمحرك جديد للإنتاجية، يشبه في تأثيره الثورات الصناعية السابقة واكتشاف الكهرباء.
ويتابع: تتيح هذه التقنيات أتمتة العمليات الروتينية، وتحليل البيانات الضخمة بدقة متناهية، ما يرفع كفاءة التشغيل ويخفض التكاليف بصورة جذرية. ولا يقتصر هذا الأثر على تحسين الأداء الحالي فحسب، بل يمتد إلى خلق قيمة اقتصادية جديدة كلياً، عبر ابتكار منتجات وخدمات في مجالات لم تكن موجودة من قبل، مثل الطب الشخصي، والمدن الذكية، والتمويل المتطور، وهو ما يعزز شهية المستثمرين، ويخلق موجة من التفاؤل المالي تنعكس إيجاباً على أسواق الأسهم وثروات الأفراد والشركات، وتدفع عجلة الطلب الاستهلاكي.
لكن سعيد يشدد على ضرورة التحلي بالواقعية، وعدم المبالغة في الرهانات، موضحاً أن:
- هذا النجاح ليس مطلقاً ولا مضمون الاستمرار، بل يظل مشروطاً ومصحوباً بمخاطر حقيقية.
- المشهد الحالي، بحسب وصفه، يظهر تركزاً شديداً لهذه الاستثمارات في يد عدد محدود من الشركات الكبرى، وفي قطاعات بعينها مثل تصنيع الرقائق والبرمجيات.
- يخلق ذلك نوعاً من “الاقتصاد الدائري المغلق” الذي قد ينفصل عن واقع الاقتصاد الحقيقي، ويجعله عرضة للاهتزاز في حال تعرضت هذه التقييمات المرتفعة لأي تصحيح مفاجئ، أو إذا ما تبين أن الأرباح الفعلية تتأخر في الظهور، وهو ما يُعرف اقتصادياً بـ “مفارقة الإنتاجية”، حيث تحتاج التقنيات الجديدة إلى سنوات طويلة وربما عقود حتى تتغلغل في مفاصل الاقتصاد وتترجم الى نمو حقيقي في الناتج المحلي كما حدث سابقا مع الحواسيب والانترنت.


