وتأتي هذه التطورات في وقت يواجه فيه الاقتصاد الأميركي سلسلة من التحديات الضاغطة، بدءاً من البيانات الاقتصادية المتأخرة بفعل الإغلاق الحكومي، وصولاً إلى تباين مؤشرات التوظيف والتضخم، ما جعل قراءة المشهد أكثر تعقيداً أمام صناع القرار. وبينما تراهن الأسواق على خفض قوي للفائدة ينعش النمو، يتصاعد داخل الفيدرالي تيار معارض يحذر من المخاطر التضخمية، ويرى أن التسرّع قد يعيد إشعال الضغوط السعرية.
وفي ظل هذه البيئة المشحونة، يبدو أن تغيير قيادة الفيدرالي وحده لن يكون الوصفة السحرية التي يتصورها ترامب أو المستثمرون؛ فالنقاشات الدائرة الآن داخل لجنة السوق المفتوحة تعكس انقسامات بنيوية أعمق، قد تمتد إلى عام 2026، وتؤسس لمرحلة تتخذ فيها القرارات النقدية عبر تصويتات متقاربة وغير تقليدية. هذا المشهد يمهّد لمرحلة جديدة في تاريخ الفيدرالي، حيث تتقاطع السياسة مع الاقتصاد بصورة أكثر حدّة من أي وقت مضى.
ماذا يحمل 2026؟
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” إلى تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع الماضي التي أكد فيها أنه يتوقع انخفاضاً كبيراً في أسعار الفائدة بمجرد تولي مجلس الاحتياطي الفيدرالي الجديد في مايو المقبل.
فيما تشير المعارضة المتزايدة لخفض أسعار الفائدة في ديسمبر داخل البنك المركزي إلى أنه قد لا يحصل ترامب على ما يريده.
- يواجه رئيس الفيدرالي جيروم باول، بغض النظر عما سيتخذه في ديسمبر، مقاومة داخلية أكبر من أي قرار آخر خلال فترة ولايته الممتدة لثماني سنوات تقريبًا.
- قد يستمر هذا الانقسام حتى العام المقبل، مما يعني أن مجرد تغيير الرئيس لن يضمن المزيد من تخفيضات أسعار الفائدة.
- يخشى بعض القدامى في بنك الاحتياطي الفيدرالي من أن ترامب، بدلاً من قبول هذه النتيجة، سيتخذ خطوات أكثر حزماً للحد من استقلال البنك المركزي وضمان أسعار فائدة أقل.
لأكثر من 30 عامًا، سعى رؤساء مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى صياغة أوسع إجماع ممكن حول قرارات أسعار الفائدة. ونادراً ما تُجرى تصويتات بأغلبية ضئيلة.
بينما هناك الآن احتمال حقيقي لثلاثة أو أكثر من الأصوات المعارضة في ديسمبر، سواءً اختار باول التوقف أو خفض الفائدة.
وينقل التقرير عن كريشنا جوها من بنك الاستثمار إيفركور آي إس آي، قوله: “العملية تبدو وكأنها تتفكك.. نحن نخاطر بالانتقال العام المقبل إلى بيئة بها لجنة منقسمة بشدة”.
وفق جوها، وهو مسؤول تنفيذي سابق في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، فإنه “يبدو الأمر وكأنه بروفة لما سيحدث عام 2026”. يُلمّح هذا الانقسام إلى احتمالية تشكيل بنك احتياطي فيدرالي مستقبلي “حيث تُتخذ القرارات بطرق لم يسبق لها مثيل في الذاكرة الحية – بأغلبية الأصوات، وحيث لن يكون من السهل على الرئيس المُعيّن من قِبل ترامب تحقيق أهدافه”.
انقسام عميق محتمل
يقول رئيس قسم الأسواق المالية في شركة FXPro، ميشال صليبي ، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- العام 2026 قد يشهد “انقساماً عميقاً” في توجهات السياسة النقدية الأميركية، خصوصاً في ظل غياب عدد من البيانات الاقتصادية خلال الفترة الماضية، والتباين الواضح بين مؤشرات التوظيف ومؤشرات التضخم في الولايات المتحدة.
- بيانات التضخم الأخيرة أظهرت اتساع فجوة الأداء الاقتصادي داخل الاقتصاد الأميركي.
- تأثير الإغلاق الحكومي يحتاج إلى بعض الوقت قبل أن تتضح انعكاساته الكاملة على الأسواق.
ويضيف: “الصورة قد تكون أكثر وضوحاً خلال العام المقبل فيما يتعلق بمسار الاحتياطي الفيدرالي”، لافتاً إلى أن تغيير الرئيس سيلعب دوراً مهماً في تشكيل السياسات المقبلة، في ظل وجود شريحة معتبرة داخل الفيدرالي تميل إلى السياسة التيسيرية وخفض أسعار الفائدة.
ويتابع صليبي: “نتوقع مزيداً من التخفيضات في أسعار الفائدة خلال العام المقبل، شرط أن تستمر البيانات الاقتصادية في تقديم دعم لهذا الاتجاه.. ومن المهم ألا نشهد ارتفاعاً جديداً في مؤشرات التضخم، بينما تُعد أي بيانات ضعيفة في سوق العمل عاملاً إضافياً يدعم هذا المسار”.
اجتماع ديسمبر
وأعرب أعضاء لجنة وضع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي عن “آراء متباينة بشدة” حول ما إذا كان ينبغي خفض أسعار الفائدة الشهر المقبل، وفقًا لمحضر اجتماع البنك المركزي في أكتوبر.
أظهر سجل اجتماعهم الأخير الذي صدر يوم الأربعاء الماضي انقساما عميقا بين صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي بشأن الحاجة إلى خفض أسعار الفائدة للمرة الثالثة هذا العام، وهو ما يسلط الضوء على الانقسام المتزايد بشأن تكاليف الاقتراض، وفق وصف تقرير لصحيفة فايننشال تايمز.
وحسبما جاء في محضر اجتماع لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، فإنه “في مناقشة المسار القريب للسياسة النقدية، أعرب المشاركون عن وجهات نظر متباينة بشدة حول القرار السياسي الذي من المرجح أن يكون مناسبا في اجتماع اللجنة في ديسمبر”،.
- تسلط محاضر الاجتماع الضوء على التباين في الرأي بين صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي الذين انقسموا بشأن وتيرة ونطاق خفض أسعار الفائدة هذا العام مع ارتفاع التضخم وضعف سوق العمل.
- سيُصبح القرار أكثر صعوبةً بعد أن أعلن مكتب إحصاءات العمل يوم الأربعاء أنه لن يُصدر تقرير الوظائف لشهر أكتوبر.
- وبينما سيُصدر تقرير سبتمبر هذا الأسبوع، لن يتلقّى صانعو السياسات في الاحتياطي الفيدرالي بياناتٍ جديدةً إلا بعد اجتماعهم يومي 9 و10 ديسمبر.
قررت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في أكتوبر خفض أسعار الفائدة بمقدار 0.25 نقطة مئوية للمرة الثانية هذا العام. إلا أن التصويت شهد انقساماً نادراً بين اتجاهات مختلفة، حيث أيد ستيفن ميران، حليف الرئيس دونالد ترامب، خفضًا بمقدار نصف نقطة مئوية، بينما دعا جيف شميد، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في كانساس سيتي، إلى تثبيت أسعار الفائدة.
اختلاف جوهري
بدوره، يؤكد خبير أسواق المال محمد سعيد لموقع ا”قتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- حالة الانقسام الحالية داخل أروقة الاحتياطي الفيدرالي لم تعد مجرد تباين في وجهات نظر أو اختلاف تقني في تقييم البيانات، بل تحولت إلى صراع منهجي عميق بين صُنّاع السياسة النقدية.
- هذا الانقسام مرشح للاستمرار والتمدد خلال عام 2025، وقد تمتد تداعياته إلى 2026، في ظل تباينات حادة في قراءة الواقع الاقتصادي المعقد.
- الفيدرالي يقف اليوم في مفترق طرق حساس بين تضخم عنيد يرفض الاستقرار عند مستهدف 2 بالمئة، وسوق عمل تُظهر بوادر ضعف وتباطؤ.
ويشير إلى أن هذا الواقع خلق ثلاثة تيارات رئيسية داخل المجلس:
- “تيار الصقور”، الذي يرى أن خفض الفائدة حالياً يمثل مخاطرة قد تعيد إشعال ضغوط الأسعار.
- “تيار الحمائم” الذي يخشى أن يؤدي التأخير في الخفض إلى دفع الاقتصاد نحو الركود.
- تيار ثالث وسط يفضل التريث ومراقبة البيانات بدقة قبل اتخاذ أي خطوة.
ويضيف أن الضبابية الاقتصادية ازدادت حدة الانقسام، خصوصاً مع التأخر في صدور بعض البيانات الحيوية والمشكلات الفنية في التقارير الاقتصادية، مما جعل الرؤية غير مكتملة أمام صناع القرار. وأدى ذلك إلى تراجع التوقعات المتفائلة التي كانت تراهن عليها الأسواق بشأن سلسلة من التخفيضات السريعة والكبيرة.
وبحسب سعيد، فإن السيناريو الأكثر واقعية للعام المقبل يتمثل في تخفيضات محدودة ومتباعدة قد تقتصر على خطوة أو خطوتين فقط، وهو ما يتعارض مع رهانات المستثمرين على تيسير نقدي واسع وسريع، مما سيُبقي التذبذب وعدم اليقين مرتفعين في الأسواق خلال الفترة المقبلة.
يشير خبير أسواق المال إلى أن الاعتقاد بأن تغيير قيادة الفيدرالي يمكن أن يشكل حلاً سريعاً أو تحولاً فورياً في سياسات خفض الفائدة هو تصور غير واقعي، نظراً لأن آلية اتخاذ القرار داخل لجنة السوق المفتوحة تعتمد على تصويت جماعي بين أعضاء من واشنطن ورؤساء بنوك إقليمية لكل منهم بياناته وتقييمه المستقل.
ويوضح أن التغييرات المالية مثل التعريفات الجمركية وزيادة الإنفاق الحكومي قد تزيد من تعقيد مهمة الفيدرالي، وربما تدفعه للبقاء في المنطقة الحالية لفترة أطول لضمان عدم انفلات التضخم مجدداً.
ويختتم حديثه قائلاً: “الطريق نحو الفائدة المنخفضة لن يكون سالكاً كما يتصور البعض، وسيظل مرهوناً ببيانات اقتصادية قاطعة تقنع كل الأطراف المتباينة بضرورة تغيير المسار”.


