تأتي هذه التهديدات في ظل تغييرات جوهرية في العلاقة الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم، حيث أظهرت البيانات انخفاضًا كبيرًا في التجارة الثنائية وانعكاسات واضحة على قطاع الزراعة الأميركي، فيما تسعى الصين لتثبيت أوراق قوتها الاستراتيجية في مواجهة الضغوط الأميركية.
تشير الأرقام الرسمية إلى أن الصين، التي كانت تستورد سنويًا نحو 13 مليار دولار من فول الصويا الأميركي، توقفت عمليًا عن الشراء هذا العام. كما انخفضت مشتريات الصين من المنتجات الزراعية الأميركية بنسبة 53 بالمئة منذ بداية العام، ما يشير إلى خسائر محتملة تصل إلى نحو 50 مليار دولار للمزارعين الأميركيين، الذين يمثلون قاعدة انتخابية أساسية للرئيس ترامب، خصوصًا مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس العام المقبل.
الأبعاد الاقتصادية للأزمة:
إلى جانب الخسائر الزراعية، تواجه الولايات المتحدة ضغطًا إضافيًا بسبب اعتمادها على الصين في 80 بالمئة من المعادن النادرة التي تدخل في الصناعات الحساسة، بما في ذلك صناعة الطائرات والقطاعات التكنولوجية المتقدمة. وقد فرضت الحكومة الصينية قيودًا على تصدير هذه المعادن، ما أثار مخاوف أميركية من تأثيرها على الصناعات العسكرية والتكنولوجية، إلى جانب التهديد المباشر لمراكز النفوذ الأميركي على الساحة العالمية.
تشير بيانات التجارة بين البلدين إلى انخفاض الصادرات والواردات بين الصين والولايات المتحدة للشهر السادس على التوالي، ما يعكس أزمة ثقة حقيقية بين أكبر اقتصادين عالميًا، ويؤكد حجم المخاطر الاقتصادية التي تهدد الأسواق العالمية. ومع ذلك، يظل الطرفان مضطرين لتخفيف حدة التوتر، إذ أن أي مواجهة اقتصادية مباشرة ستكون لها انعكاسات مدمرة على اقتصادهما وعلى الاقتصاد العالمي بأسره.
الاتفاق التجاري الأميركي-الصيني: محتمل لكن محفوف بالمخاطر
في هذا الإطار، قال د. محمد أنيس، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، خلال حديثه لبرنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، إن “التوصل إلى اتفاق محتمل لكنه ليس مضمونًا بالقدر الكافي لاستمرارية فعالة للطرفين”. وأضاف أن الهدف الأميركي الأساسي من الاتفاق هو تقييد قدرة الصين على منافسة الولايات المتحدة على المسرح العالمي، بينما تمتلك الصين القدرة على التكيف مع القيود المفروضة، ما يجعل احتمال التصادم مستمرًا حتى بعد الإعلان عن أي اتفاق.
وأوضح د. أنيس أن الاتفاق المحتمل قد يتضمن تحديد نسبة جمارك مقبولة للطرفين، ربما في حدود 15% كما حدث مع اليابان والاتحاد الأوروبي، مع مراعاة خطوط حمراء لكل طرف. من بينها استمرار تدفق المعادن النادرة من الصين إلى الولايات المتحدة، واستمرار شراء الغاز الأميركي، وإعادة شراء الصين للسلع الزراعية، خصوصًا فول الصويا. وفي المقابل، تسعى الصين إلى استمرار تدفق الرقائق من أميركا، والحفاظ على فتح الأسواق الأميركية أمام منتجاتها حتى مع وجود نسبة محددة من الرسوم الجمركية.
أوراق قوة الصين الاستراتيجية:
أشار د. أنيس إلى أن الصين تمتلك ثلاث أوراق قوة رئيسية في هذه المواجهة:
- إمدادات الطاقة:حيث تعمل الصين على تعزيز علاقاتها مع روسيا للحصول على الطاقة، مستغنية جزئيًا عن الغاز الطبيعي المسال الأميركي، ما يمنحها مرونة في مواجهة الضغوط الاقتصادية.
- المعادن النادرة:تدخل في الصناعات العسكرية والحساسة، رغم أن حجمها في التجارة الثنائية لا يتجاوز 5% من الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة (28 مليار دولار من إجمالي نحو 600 مليار دولار)، إلا أن أهميتها تكمن في طبيعة الصناعات التي تعتمد عليها، مما يمنح الصين نفوذًا استراتيجيًا فاعلًا.
- الضغط الانتخابي الداخلي على ترامب:المزارعون الأميركيون، خصوصًا منتجو فول الصويا، يشكلون قلب القاعدة الانتخابية للرئيس ترامب، ما يجعل أي خسائر في هذا القطاع أداة ضغط حقيقية على الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة.
الجانب الاستراتيجي والعسكري:
رغم أن التوتر الحالي يتركز على الجوانب الاقتصادية، إلا أن الخلاف يشمل أيضًا أبعادًا استراتيجية وعسكرية. فالصين ترى أن أميركا تمتلك القدرة على تهديد أمنها العسكري عبر دعمها لتايوان وتدفق الأسلحة إلى حلفائها في آسيا، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، ما يضع الصين أمام تحديات أكبر من مجرد قيود تجارية.
التداعيات المحتملة للأسواق:
وأكد د. أنيس أن حديث ترامب عن فرض الرسوم الجمركية يعد تهديدًا تفاوضيًا أكثر من كونه خطة تنفيذية فعلية، موضحًا أن تطبيق الرسوم بشكل كامل قد يؤدي إلى اضطراب شديد في الأسواق المالية، خاصة في سوق السندات، ما سيكون مضراً للاقتصاد الأميركي نفسه. ومن هنا، يُتوقع أن يركز أي اتفاق محتمل على الشق المالي والاقتصادي أمام وسائل الإعلام، بينما تظل القضايا الاستراتيجية الأكثر حساسية غير معلنة، لكنها جزء من المفاوضات خلف الكواليس.
الأزمة التجارية بين الصين والولايات المتحدة تتجاوز حدود الاقتصاد لتشمل الاستراتيجيات العسكرية والسياسية، وكذلك الضغوط الانتخابية الداخلية. كلا الطرفين يمتلك أوراق قوة تجعل أي مواجهة مباشرة مكلفة للغاية، ما يدفع نحو البحث عن تسويات مؤقتة أو اتفاقيات جزئية. ومع ذلك، يبقى الاحتمال قائمًا بأن تستمر جولات التصعيد حتى بعد أي اتفاق، إذ إن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية لكلا البلدين متشابكة ومعقدة بدرجة كبيرة، ما يجعل هذه الأزمة أحد أكبر التحديات الاقتصادية العالمية في السنوات الأخيرة.