هذه التطورات الجيوسياسية تفتح باب التساؤل: هل نحن على أعتاب مواجهة كبرى، أم أن العالم أمام إعادة رسم صامتة للنفوذ الدولي خلف الكواليس؟
من وعود غورباتشوف إلى واقع أوروبا اليوم
تعود جذور التوتر إلى عهد الاتحاد السوفيتي ووعد وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جيمس بيكر، بعد توحيد ألمانيا، بأن الناتو “لن يتوسع شرقا شبرا واحدا”.
الوعد الذي لم يتم الالتزام به كان سببا في تراكم الغضب الروسي، خاصة بعد توسع الناتو ليشمل دول البلطيق على حدود روسيا الغربية. اليوم، وبعد مرور عقود، يبدو أن روسيا والناتو على أبواب اختبار جديد، قد يعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية في أوروبا.
اختراق المجال الجوي الإستوني.. إشارة تحذير أم مناورة؟
شهدت الأسابيع الأخيرة اختراق مقاتلات روسية للمجال الجوي الإستوني لمدة تراوحت بين 12 و18 دقيقة، حسب مصادر غربية.
هذا الاختراق لم يلقَ استجابة مباشرة من الدفاعات الإستونية، واكتفت الطائرات الإيطالية بمواجهة المقاتلات الروسية، ما جعل إستونيا وفق التحليلات الروسية مجرد قاعدة عسكرية للناتو، وهو ما تعتبره موسكو تهديدًا مباشرًا لأمنها.
وفي هذا السياق، حذرت بريطانيا من احتمال تصعيد المواجهة بين روسيا والناتو، بينما أكد ترامب استعداده الكامل للدفاع عن بولندا ودول البلطيق وحتى الاتحاد الأوروبي في حال أي تصعيد محتمل.
استراتيجية ترامب.. استنزاف أم حماية؟
يرى أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الاكاديمية للعلوم السياسية نزار بوش خلال حديثه إلى “التاسعة” على سكاي نيوز عربية أن التصريحات البريطانية والإستونية، وسابقا البولندية، لا تعكس استعدادا حقيقيًا للمواجهة مع روسيا، بل هي جزء من حملة ضغط إعلامية وسياسية، وفق تعليقه.
وأشار بوش إلى أن ترامب يستغل هذه التوترات لصالح الصناعات العسكرية الأميركية، عبر فرض ضغوط على أوروبا لشراء الأسلحة بأسعار مرتفعة، وهو ما وصفه بأنه “استنزاف لأوروبا وليس نتيجة تصرفات روسية عدائية”.
وأضاف أن تصريحات ترامب المتناقضة أحيانًا، بين التهديد بالحماية ثم التراجع عنها، تصب في مصلحة الولايات المتحدة والشركات العسكرية أكثر من أوروبا نفسها.
بوتين: ضبط النفس الاستراتيجي وأمن روسيا الإقليمي
من جانب آخر، يرى بوش أن بوتين يسعى بشكل واضح للحفاظ على أمن روسيا الاستراتيجي دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الناتو.
روسيا، بحسب التحليل، لا تطمح للسيطرة على دول البلطيق، كما أن احتمال أي اصطدام مباشر مع الحلف سيكون كارثيا للطرفين.
هدف روسيا، كما يؤكد بوش، هو ضمان حيادية أوكرانيا وعدم انضمامها للناتو، مع الحفاظ على توازن الردع العسكري ضد أي تهديد محتمل.
التنسيق السري بين موسكو وواشنطن
وفق بوش، هناك اتصال دائم بين الخارجية الروسية والأميركية، مع تنسيق مستمر بين الرئيسين بوتين وترامب خلف الكواليس لتجنب أي مواجهة مباشرة.
هذا التنسيق يشير إلى أن التصعيد الحالي إعلامي وسياسي أكثر من كونه عسكريًا، وأن الولايات المتحدة وروسيا تسعيان لإدارة التوتر دون الدخول في حرب شاملة، رغم قوة الطرفين العسكرية والتقنية.
السيناريوهات المحتملة لأوروبا
في ظل هذه المعطيات، يبرز سيناريوهان رئيسيان أمام أوروبا:
تصعيد غربي للضغط على روسيا: محاولة لتفتيت الاتحاد الأوروبي وتشتيت انتباهه نحو الدفاع عن حدوده الشرقية، مع استغلال التهديد الروسي كأداة ضغط سياسي.
موازنة روسية دقيقة: روسيا تحافظ على حياد أوكرانيا، وتتفادى الدخول في مواجهة مباشرة مع الناتو، ما يعكس استراتيجية ضبط النفس الاستراتيجي للحفاظ على الأمن الإقليمي.
وفي هذا السياق، يشدد بوش على أن أي مواجهة مفتوحة بين روسيا والناتو ستكون كارثية، لذلك لا يمكن توقع اصطدام مباشر، رغم اختراق المجال الجوي الإستوني والتصعيد الإعلامي الأوروبي.
أوروبا بين المطرقة والسندان
الواقع يشير إلى أن أوروبا تواجه اختبارًا دقيقًا بين الاعتماد على الحماية الأميركية وبين مواجهة التحديات الأمنية الروسية.
التصريحات الأخيرة تكشف أن أوروبا، رغم عضويتها في الناتو، ليست مستعدة لمواجهة روسيا بشكل مباشر، وأن التصعيد الحالي أكثر رمزيًا وتحذيريًا منه تهديدًا حقيقيًا بالحرب.
في المقابل، يبدو أن ترامب وبوتين يواصلان التنسيق السري لإدارة الصراع دون الانزلاق إلى مواجهة عسكرية شاملة، مع استغلال الموقف لأغراض سياسية واستراتيجية واقتصادية، ما يجعل المشهد الأوروبي معقدًا ومتقلبًا بين التهديد والتحوط.
وبين تصريحات التحذير البريطانية، واستنزاف ترامب لأوروبا، وضبط النفس الروسي، يبقى المشهد في أوراسيا متوترًا ومرشحًا لمزيد من المناورات السياسية والإعلامية.
ما يميز الوضع الحالي هو أن العالم يراقب بحذر، وأن أي خطأ أو حساب خاطئ قد يفتح الباب أمام أزمة غير مسبوقة.
في النهاية، يبدو أن أوراسيا تعيش مرحلة دقيقة من إعادة رسم النفوذ الدولي، حيث المصالح الاقتصادية والسياسية تتداخل مع التهديدات العسكرية، ما يجعل أوروبا على صفيح ساخن، بين ضغوط الناتو واستراتيجية موسكو الدقيقة.