يتنامى هذا الجدل في وقت تتصاعد فيه الضغوط الداخلية والخارجية، ما يفرض على بروكسل والعواصم الأوروبية إعادة النظر في استراتيجياتها الاقتصادية.
تتصاعد التحذيرات من اتساع الفجوة بين أوروبا من جهة والولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، في ظل تسارع الابتكار لدى المنافسين وتباطؤ الاستجابات الأوروبية.
يأتي هذا الجدل المرتبط بمستقبل القارة في ظل عوامل متشابكة أخرى، تشمل تعقيدات البيروقراطية، وتحديات التكنولوجيا، وضغوط الطاقة، والانقسامات السياسية. ومع تزايد المخاوف من تراجع الجاذبية الاستثمارية لأوروبا، تتضح الحاجة إلى إصلاحات جذرية قادرة على حماية الثقل الصناعي والاقتصادي للقارة.
القدرة التنافسية
نقل تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” تحذيرات رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، ماريو دراغي، من أن القدرة التنافسية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي تتراجع بسبب “التقاعس” من جانب بروكسل والعواصم الوطنية، بعد عام من طرحه توصياته حول كيفية سد الفجوة مع المنافسين العالميين مثل الولايات المتحدة والصين.
كلفت المفوضية الأوروبية دراغي، الذي شغل أيضاً منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي، بتقديم تقرير حول القدرة التنافسية للاتحاد في سبتمبر من العام الماضي. واعتمدت المفوضية توصياته الـ 383 كإطار عمل لإصلاح اقتصاد الاتحاد الأوروبي، ولكن لم يُنفَّذ منها سوى جزء ضئيل منذ ذلك الحين، بينما غرقت البقية في خلافات سياسية وتعقيدات بيروقراطية.
قال دراغي في مؤتمر صحافي يوم الثلاثاء: “بعد مرور عام، أصبحت أوروبا في وضع أصعب”، مضيفاً: “نموذج نمونا يتلاشى.. نقاط الضعف تتزايد.. وقد ذُكِّرنا، على نحو مؤلم، بأن التقاعس لا يهدد قدرتنا التنافسية فحسب، بل سيادتنا نفسها.
- رغم التعهدات بالتحرك السريع لتنفيذ اقتراحات دراغي، لم يُنفذ سوى 11.2 بالمئة من أفكاره خلال العام الماضي، بحسب المجلس الأوروبي للابتكار في السياسات، وهو مركز أبحاث مقره بروكسل.
- في الوقت نفسه، استمر الاقتصاد الأوروبي في التباطؤ، حيث سينمو الاقتصاد الأميركي أسرع بثماني مرات من اقتصاد الاتحاد الأوروبي في الربع الثاني من عام 2025.
وزعم مسؤولون أوروبيون أن فون دير لاين وزعماء الاتحاد الأوروبي الوطنيين منشغلون بتجنب حرب تجارية مع الولايات المتحدة، وإبقاء إدارة دونالد ترامب منخرطة في أوكرانيا، وإيجاد التوازن الصحيح مع الصين.
لكن دراغي حذّر من أن “مواطني أوروبا وشركاتها يُعربون عن إحباط متزايد.. إنهم يشعرون بخيبة أمل إزاء بطء تحرك الاتحاد الأوروبي.. يروننا نفشل في مواكبة سرعة التغيير في أماكن أخرى. إنهم مستعدون للتحرك، لكنهم يخشون أن الحكومات لم تُدرك خطورة اللحظة”.
عوامل متشابكة
من جانبه، يؤكد الرئيس التنفيذي لشركة V I Markets طلال العجمي، في تصريحات لموقع ا”قتصاد سكاي نيوز عربية”، أن تأخر اقتصاد الاتحاد الأوروبي عن منافسيه العالميين يعود إلى “مزيج من العوامل المتشابكة”.
ويوضح العجمي أن “البيروقراطية المعقدة تبطئ من وتيرة الابتكار، في حين أن الاعتماد الكبير على الطاقة المستوردة، والتي تضخمت تكلفتها بعد الحرب في أوكرانيا، شكّل عبئا إضافيا على الاقتصادات الأوروبية”.
ويشير إلى أن “ضعف الاستثمار في التكنولوجيا مقارنة بالولايات المتحدة والصين يمثل تحديا جوهريا”، مضيفا أن “الانقسام بين دول الاتحاد يجعل عملية اتخاذ القرار الجماعي بطيئة ومعقدة”.
ويشدد على أن “أوروبا تظل قوة اقتصادية كبرى، لكنها بحاجة ماسة إلى إصلاحات هيكلية وتخفيف القيود، وإلا ستبقى خطوة متأخرة عن الولايات المتحدة والصين”.
أزمة التكنولوجيا الأوروبية
ويشار إلى أن “أبرز إخفاقات أوروبا هو قطاع التكنولوجيا، فهي متأخرة عن أميركا بكل المقاييس تقريباً، في عصر يُعد فيه التقدم التكنولوجي أحد أقوى محركات الرفاهية المادية”، بحسب مقال نشرته “ياهو فاينناس”.
ومع ذلك، بدلًا من محاولة محاكاة نهج أميركا المتساهل نسبيًا، والذي منح رواد الأعمال والمخترعين والمستثمرين حرية بناء شركات مثل آبل وتسلا ومايكروسوفت وغوغل، يُعرف الاتحاد الأوروبي بأنه “قوة تنظيمية عظمى”.
في السنوات الأخيرة، فرض الاتحاد الأوروبي قواعد تنظيمية جديدة موسعة بشأن خصوصية البيانات، والتي كرسّت في القانون لافتات ملفات تعريف الارتباط التي تملأ الإنترنت الآن، وانغمس في التنظيم الاستباقي للذكاء الاصطناعي، والذي ادعى مفوض السوق الداخلية أنه سيسمح “للشركات الناشئة والباحثين الأوروبيين بقيادة السباق العالمي نحو الذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة”.
كما تُعدّ أسعار الكهرباء في أوروبا من بين الأعلى في العالم، وذلك بفضل القوانين البيئية والاعتماد المفرط على الغاز المستورد، وهي مشكلة كبيرة عندما يعتمد الذكاء الاصطناعي على مراكز البيانات التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة.
تحديات
بدوره، يوضح خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن الاتحاد الأوروبي، رغم مكانته الاقتصادية إلا أن وتيرة صعوده ما زالت تتخلف عن منافسيه الكبار، في وقت تسجل فيه الولايات المتحدة والصين أداء أقوى.
ويشير إلى أن ضعف الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار يُعدّ من أبرز أسباب هذا التراجع، إذ لا تضم أوروبا أي شركة كبيرة ضمن قائمة أكبر شركات التكنولوجيا العالمية مقارنة بالولايات المتحدة والصين.
كما يؤكد أن شيخوخة السكان تمثل تحدياً إضافياً، إذ باتت نسبة كبيرة من المجتمع من كبار السن، ما يضغط على سوق العمل ويزيد تكاليف الرعاية. ويضيف أن الاعتماد الكبير على الطاقة المستوردة كان له أثر بالغ، خاصة بعد أزمة الغاز الروسي التي رفعت الأسعار وأضعفت القدرة التنافسية للصناعة الأوروبية، في حين كانت الولايات المتحدة والصين أقل تضررًا، بل إن الصين استفادت من انخفاض أسعار موارد الطاقة الروسية.
كما يشير إلى أن تشتت السياسات الاقتصادية بين الدول الأعضاء يعقّد عملية الاستجابة للأزمات، مقارنة بالولايات المتحدة التي تتحرك بقرار مركزي موحد.
ويختتم الخفاجي حديثه بالقول إن أوروبا باتت أقل جذباً للاستثمار الأجنبي المباشر، وتواجه خطر فقدان ثقلها الصناعي لصالح آسيا والولايات المتحدة.