هذه التحركات تأتي في وقت تعاني فيه إسرائيل من عزلة دولية متزايدة، مع تراجع دعمها الدبلوماسي، وتزايد دعوات بعض الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطينية، وسط تحذيرات أميركية من المخاطر الإنسانية والسياسية المرتبطة بالتصعيد.
في هذا السياق، يطرح الخبراء تساؤلات جوهرية: هل تستطيع إسرائيل عزل المعركة الميدانية عن تداعياتها السياسية؟ وما هي أوراقها المتبقية إذا فشلت أهدافها العسكرية؟ وكيف ستتعامل مع الفشل المحتمل على الأرض وسط ضغوط دولية متنامية؟.
تحركات إسرائيلية متسارعة
أكد الكاتب والباحث السياسي إيلي نيسان، خلال حديثه إلى “غرفة الأخبار“، أن إسرائيل تواجه تحديات مزدوجة على أكثر من جبهة “هناك نقاش داخلي مستمر في الكابينيت الإسرائيلي بين رئيس الوزراء ورؤساء الأجهزة الأمنية حول مسارات العمل العسكري والإنساني”، كما أشار نيسان، مضيفًا أن الأهداف الأساسية في المرحلة الحالية تتضمن إنقاذ 10 من المخطوفين وإعادة جثث أكثر من 16 شخصًا توفوا أثناء العمليات السابقة.
وأشار نيسان إلى أن فرض الطوق الشامل على مدينة غزة، وقيود التنقل للسكان، تأتي ضمن خطة شاملة للتحضير للاقتحام، رغم معارضة حركة حماس لأي إخلاء طوعي.
وقال: “الحياة في غزة أصبحت رهينة بين الخطوط، وما يهدد المدنيين ليس فقط القصف الإسرائيلي، بل أيضا تحركات حماس التي تستخدم المدنيين كدروع بشرية”.
ورغم أن نتنياهو أعلن رغبته في سحق حركة حماس، أكد نيسان أن إسرائيل لم تغلق الباب أمام التوصل إلى صفقة مشروطة لإطلاق سراح المخطوفين، إذا أبدت الحركة بعض المرونة، موضحا أن الحكومة الإسرائيلية تحاول الموازنة بين تحقيق أهدافها العسكرية وحماية المدنيين المخطوفين.
الضغوط الداخلية والخارجية على إسرائيل
يرى نيسان أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يقف في موقف حرج على الصعيدين الداخلي والخارجي. داخليا، يواجه ضغطا متزايدا من عائلات المخطوفين التي نظمت مظاهرات أمام السفارة الأميركية ومقر رئاسة الوزراء، مطالبة بإنقاذ حياة الرهائن. أما على المستوى الخارجي، فتواجه إسرائيل تحركات دبلوماسية متسارعة، مع توجه بعض الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطينية، وتهديدات بعقوبات محتملة إذا لم تلتزم إسرائيل بالمعايير الإنسانية.
وأكد نيسان أن “الرئيس ترامب منح نتنياهو الضوء الأخضر لاقتحام غزة، لكنه حذر من طول الحرب وضرورة إيجاد حلول عاجلة للرهائن”.
وأضاف: “الوقت لا يلعب لصالح إسرائيل، إذ إن الحرب على غزة دخلت عامها الثاني منذ 7 أكتوبر 2023، في حين تتزايد الانتقادات الدولية والإقليمية لممارسات تل أبيب”.
المعادلة الأميركية.. دعم مشروط وتحفظات واضحة
أكد الباحث بسام بريندي أن الدعم الأميركي لإسرائيل ليس مطلقًا، بل يتسم بالتحفظ والدقة، مضيفًا: “الولايات المتحدة تريد أن تفصل نفسها إعلاميا عن أي كارثة إنسانية محتملة في غزة، وتبحث عن حلول تقلل من الأضرار وتحقق التوازن بين دعم إسرائيل والحفاظ على صورتها الدولية”.
وأشار بريندي إلى أن النقاش في الكونغرس يركز على ما إذا كانت أهداف إسرائيل قابلة للتحقيق دون تكبد خسائر بشرية فادحة، وأن الولايات المتحدة لا ترغب في أن تكون جزءا من مشكلة جديدة في الشرق الأوسط، خصوصا في ظل الضغط المتزايد من المجتمع الدولي بشأن الوضع الإنساني في القطاع.
ولفت إلى أن أصواتا في الولايات المتحدة، خصوصا بين أعضاء الكونغرس ومؤثرين إعلاميين، تطالب بتقليص الدعم العسكري لإسرائيل أو إعادة توجيه التمويل للداخل الأميركي، لكن هذه الأصوات لا تمثل النخبة السياسية ولا تؤثر على الموقف الرسمي لترامب تجاه تل أبيب.
الكلفة الميدانية والإنسانية الباهظة
كما أشار بريندي إلى أن الجيش الإسرائيلي يسيطر اليوم على نحو 65–75% من أراضي قطاع غزة، لكنه لم يحقق أهدافه كاملة ضد حركة حماس، فيما تتواصل الخسائر البشرية والدمار الواسع.
وأضاف: “لا يوجد مكان آمن لسكان غزة، سواء الفلسطينيين أو النازحين السوريين الذين لجأوا إلى القطاع سابقا، ولا توجد آليات لإبعاد المدنيين أو توفير مأوى كاف لهم”.
وتابع: “هذا الواقع يجعل أي تحرك عسكري محفوفا بالمخاطر الإنسانية، ويضع إسرائيل في مواجهة ضغوط سياسية ودبلوماسية متزايدة، خصوصًا من الجانب الأميركي والأوروبي”.
الانقسام الداخلي وتأثيره على القرار السياسي
تواجه إسرائيل أيضا انقسامات داخلية حادة، وفق تصريحات نيسان وبريندي، بين مؤيدي شن عملية عسكرية شاملة وبين من يرون صعوبة تحقيق أهداف نتنياهو دون خسائر كبيرة في الأرواح والموارد.
ويضيف نيسان: “نتنياهو لا يريد منح السلطة الفلسطينية أي دور في إدارة غزة بعد الحرب، ما يترك غموضا كبيرا حول مستقبل القطاع”.
ويشير الخبراء إلى أن هذه الانقسامات تعكس صعوبة القرار السياسي العسكري، خصوصا مع تزايد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، والضغوط المتنامية على إسرائيل لإيجاد حل إنساني عاجل للمدنيين والمخطوفين.
سيناريوهات محتملة لما بعد الحرب
يشير بريندي إلى أن هناك مقترحات أميركية جزئية لتبادل الأسرى والمخطوفين مقابل وقف إطلاق النار لمدة محددة، وهي حلول مرحلية قد تكون الطريق الأسلم لإنهاء الحرب الحالية دون تصعيد أكبر.
وأضاف: “لكن أي حلول طويلة المدى تتطلب مشاركة دولية أكبر، وهو أمر غير متوفر حتى الآن، حيث تركز المبادرات على الجانب الإنساني فقط، وليس على إعادة توزيع السلطة أو السيطرة الإدارية على غزة”.
وأوضح بريندي أن الخيارات اللوجستية لإبعاد السكان الفلسطينيين من غزة محدودة، ما يزيد من تعقيد أي خطة طويلة المدى لإعادة تنظيم القطاع بعد الحرب.
كما أشار إلى أن أي فشل في تحقيق أهداف إسرائيل الميدانية قد يزيد من عزلة تل أبيب على المستوى الدولي، ويضعها أمام خيارين صعبين: الاستمرار في المواجهة أو التفاوض تحت ضغط دولي متصاعد.
الرهانات الدولية والإقليمية
من جهة أخرى، تواجه إسرائيل تحديا كبيرا على الصعيد الدولي، خصوصا مع تزايد الاعتراف بدولة فلسطينية، ورفض بعض الدول الأوروبية لأية عمليات عسكرية قد تؤدي إلى كارثة إنسانية.
ويضيف إيلي نيسان: “هناك ضغوط متزايدة من المجتمع الدولي، وخاصة الاتحاد الأوروبي، الذي يحاول اليوم اتخاذ موقف مختلف يعتمد على التبعات الإنسانية للعمليات الإسرائيلية في غزة”.
كما أن التوازن الدولي الإقليمي، بما في ذلك موقف الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وفرنسا، يؤثر مباشرة على استراتيجية إسرائيل.
ويشير نيسان إلى أن ترامب كان يأمل في أن تنتهي الحرب في غزة سريعا، لتكون بداية لعملية سلام جديدة، إلا أن الواقع الحالي يبعد هذا الاحتمال، مع زيادة الضغوط الدولية وتراجع الدعم الأميركي الداخلي لإجراءات تل أبيب العسكرية المستمرة.
تواجه إسرائيل معركة مزدوجة: على الأرض، حيث يسعى الجيش إلى تحقيق أهداف ميدانية صعبة ضد حركة حماس، وفي المحافل الدولية، حيث تتراجع شرعيتها الدبلوماسية وسط دعوات للاعتراف بالدولة الفلسطينية وزيادة الضغط على تل أبيب.
وتشير تصريحات نيسان وبريندي إلى أن الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية تعتمد على موازنة دقيقة بين تحقيق بعض المكاسب الميدانية وحماية المدنيين المخطوفين، مع محاولة تخفيف العزلة الدولية.
ومع ذلك، يبقى مستقبل قطاع غزة بعد الحرب غير واضح، وسط تحديات إنسانية وسياسية معقدة، وتباين بين الضغوط الأميركية والأوروبية، والانقسامات الداخلية في إسرائيل.
في هذا المشهد المليء بالتحديات، يبدو أن إسرائيل قد تكسب الأرض، لكنها تواجه خسارة محتملة في الرصيد الدبلوماسي، مما يجعل أي خطوة مقبلة في غزة محفوفة بالمخاطر والتداعيات على المدى الطويل.