وتبرز الحاجة لإدارة العلاقات مع القوى الكبرى بطريقة تحمي مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، دون الانجرار وراء أي طرف بشكل كامل، بينما تتصاعد الأحداث في مشهد دولي متغير تتشابك فيه الاعتبارات الاقتصادية مع الأبعاد السياسية والدبلوماسية.
وتسعى الهند للحفاظ على مرونتها في مواجهة الضغوط الخارجية، مع التركيز على مصالحها الداخلية والتنموية التي تتطلب مصادر طاقة مستقرة ومنخفضة التكلفة. ويجعل هذا الواقع الهند أمام تحدي إيجاد توازن دقيق بين الالتزامات الدولية وحماية مصالحها الوطنية.
ومن ثم، تعمل نيودلهي على صياغة نهج متعدد الأبعاد في سياستها الخارجية، يجمع بين العلاقات التاريخية والتحالفات الحديثة. ويشكل هذا النهج إطارًا لإدارة الخلافات والتباينات مع القوى الكبرى دون أن تتأثر سياستها بالانحياز لأي معسكر دولي.
أحدث الإشارات
- أشاد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بتنامي علاقات بلاده مع روسيا في مجال الطاقة خلال اجتماع مع الرئيس فلاديمير بوتين، متحدياً التعرفات الجمركية العقابية التي فرضتها الولايات المتحدة على نيودلهي بسبب مشترياتها من النفط الروسي بأسعار مخفضة.
- في اجتماع على هامش قمة إقليمية عُقدت في الصين يوم الاثنين، قال مودي لبوتين: “حتى في أصعب الظروف، سارت الهند وروسيا جنباً إلى جنب.. إن تعاوننا الوثيق مهم ليس فقط لبلدينا، بل أيضاً للسلام والاستقرار والازدهار العالمي”.
- وقالت وزارة الخارجية الهندية إن الزعيمين “ناقشا التعاون الثنائي، بما في ذلك في القطاعات الاقتصادية والمالية والطاقة، وأعربا عن ارتياحهما للنمو المستدام في العلاقات الثنائية في هذه المجالات”.
- صرح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، للصحافيين بأن بوتين تحدث مع مودي على انفراد لمدة ساعة في سيارة الرئيس الروسي، قبل أن يعقد الزعيمان محادثات مع وفديهما. وكان هذا أول لقاء لهما في عام 2025.
وفي الأسبوع الماضي ضاعف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرسوم الجمركية على معظم الواردات الهندية إلى 50 بالمئة، قائلا إن هذه الخطوة جاءت ردا على مشتريات نيودلهي من النفط الروسي المخفض السعر منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
ونقل الكرملين عن بوتين قوله إن التعاون التجاري والاقتصادي بين روسيا والهند “يظهر ديناميكيات إيجابية بشكل عام” على خلفية علاقاتهما “الودية والقائمة على الثقة”.
وأصبحت الهند أكبر مشتر للنفط الخام المنقول بحرا من موسكو ، حيث استوردت ما قيمته 140 مليار دولار تقريبا منذ بدء الحرب في أوكرانيا في عام 2022، وفقا لبيانات الحكومة الهندية التي استندت إليها صحيفة “فايننشال تايمز” في تقرير لها، أشارت خلاله إلى أن المصافي الهندية تقوم بمعالجة جزء كبير من هذا العرض وتحويله إلى بنزين وديزل وبيعه في الأسواق المحلية والدولية.
ووفق التقرير، فقد شجعت الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، هذه التجارة، وهو ما ساعد في الحفاظ على أسعار السوق العالمية، طالما ظل السعر الذي تدفعه الهند مقابل النفط الخام أقل من سقف السعر الذي حددته مجموعة السبع للحد من العائدات الروسية. لكن مسؤولي إدارة ترامب اتهموا منذ ذلك الحين الشركات الهندية بأنها “مستفيدة” من الحرب، الأمر الذي أدى إلى تعميق الخلاف بين واشنطن ونيودلهي.
استراتيجية الهند
يقول أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، المغرب، محمد عطيف، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- الهند تسعى إلى إدارة توترها مع الولايات المتحدة من خلال اعتماد استراتيجية التوازن بين مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.
- من جهة، تدرك نيودلهي أهمية الشراكة مع واشنطن في مجالات التكنولوجيا والدفاع والاستثمار، باعتبارها عنصرا محوريا في مواجهة الصعود الصيني في آسيا.
- ومن جهة أخرى، ترفض الهند الانصياع الكامل للإملاءات الأميركية، خصوصاً في ما يتعلق بعلاقاتها مع روسيا في مجال الطاقة والتسليح، حيث ترى أن استقلالية قرارها تشكل ركناً أساسياً في سياستها الخارجية.
ويضيف: تجدر الإشارة إلى أن إشادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي بالشراكة مع موسكو في مجال الطاقة، رغم اعتراض واشنطن، تعكس تمسك الهند بمرونتها الاستراتيجية وعدم الانجرار إلى سياسة المحاور.
- الهند تعتمد على النفط الروسي بأسعار تفضيلية، ما يحقق لها مصالح اقتصادية مباشرة، في وقت تواجه فيه تحديات تنموية داخلية تتطلب تأمين مصادر طاقة منخفضة التكلفة.
- ومن هذا المنطلق، يبرز حرص نيودلهي على صياغة مقاربة “تعددية الانفتاح” التي توازن بين علاقتها التاريخية مع روسيا والتحالفات الناشئة مع الغرب.
أما على المستوى التجاري، فإن توتر العلاقة بين الهند مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية يعكس تعارضاً بين نزعة واشنطن الحمائية ورغبة نيودلهي في حماية صناعاتها المحلية. ورغم إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استعداد الهند لخفض الرسوم إلى الصفر، إلا أن وصفه لهذه الخطوة بـ “المتأخرة” يكشف حدود التفاهم بين الطرفين. وبذلك، وفق عطيف، يمكن القول إن السياسة الهندية تقوم على “إدارة الخلاف” أكثر من حلّه، عبر الموازنة بين التنازلات الجزئية والحفاظ على استقلالية القرار، بما ينسجم مع مكانتها كقوة صاعدة تسعى لتأكيد حضورها العالمي.
انتقادات ترامب
وعزز الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الاثنين، انتقاداته للهند، واصفا العلاقات التجارية مع البلاد بأنها “كارثة أحادية الجانب تماما”، وذلك بعد زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للصين لحضور قمة منظمة شنغهاي للتعاون.
وقال ترامب في منشور على موقع “تروث سوشيال” إن الهند عرضت خفض تعريفاتها الجمركية إلى الصفر، لكنها “تأخرت”، وإن البلاد كان ينبغي أن تفعل ذلك “منذ سنوات”، دون توضيح متى قدمت مثل هذا العرض.
وأكد ترامب أن الهند تشتري النفط والأسلحة من روسيا، واتهم نيودلهي ببيع “كميات هائلة من السلع” للولايات المتحدة، لكنها فرضت رسوما جمركية عالية على الصادرات الأميركية إلى الهند.
وتُظهر بيانات منظمة التجارة العالمية أن الهند فرضت تعريفة جمركية بنسبة 6.2 بالمئة في المتوسط على الواردات الأميركية إلى البلاد في عام 2024، على أساس الوزن التجاري، بينما فرضت الولايات المتحدة تعريفة جمركية بنسبة 2.4 بالمئة على السلع الهندية. والمتوسط التجاري هو متوسط معدل الرسوم الجمركية لكل وحدة قيمة مستوردة.
في المقابل، نقل تقرير لشبكة “سي إن بي سي” الأميركية عن خبراء قولهم إن تحسن العلاقات بين نيودلهي وبكين من شأنه أن يفيد البلدين، لكنهم أثاروا شكوكاً حول إمكانية أن يصبحا شريكين مقربين بسبب النزاعات طويلة الأمد.
وقال كبير الاستراتيجيين في شركة GeoMacro Strategy BCA Access، ماركو بابيك: “إن تحسين العلاقات مع الهند أمر بالغ الأهمية، فهو يتيح للهند الوصول إلى حقوق الملكية الفكرية بالغة الأهمية التي تحتاجها إذا أرادت التصنيع وتعزيز قطاع التصنيع.. لكن على المدى البعيد، تخسر الولايات المتحدة المعركة الدعائية لتصوير الصين على أنها مُثيرة المشاكل الرئيسية.. وهذا يُعزز التعددية القطبية أكثر فأكثر”، على حد قوله.
توازن
الكاتب المتخصص في الاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- تجد الهند نفسها اليوم أمام اختبار دبلوماسي حساس، وهي تحاول الحفاظ على توازن صعب بين شراكتها المتنامية مع روسيا في مجال الطاقة، وعلاقتها المعقدة مع الولايات المتحدة.
- في وقت يزداد فيه الضغط الأميركي، يواصل رئيس الوزراء ناريندرا مودي التأكيد أن سياسات بلاده تُبنى على المصالح الوطنية وحدها، لا على حسابات الاصطفاف أو التبعية.
- رغم حديث واشنطن عن “شراكة استراتيجية”، لا يُخفي دونالد ترامب امتعاضه من استمرار نيودلهي في شراء النفط الروسي بأسعار تفضيلية، متجاهلة العقوبات الغربية، إلى جانب غضبه من تأخرها في تقديم تنازلات تجارية بعد سنوات من فرض رسوم على السلع الأميركية.
ويستطرد: “الهند من جانبها لا تعتذر عن خياراتها؛ فمودي يشيد علناً بعمق العلاقات مع موسكو، مدركاً حقيقة أن بلاده بحاجة إلى أمن طاقي مستقر لا توفره الأسواق الغربية بالمرونة أو الكلفة نفسها”.
وفي الوقت نفسه، لا تقلل نيودلهي من أهمية العلاقة مع واشنطن، بما تحمله من تعاون دفاعي وفرص تكنولوجية وتحالفات إقليمية، ما يجعلها شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه.
ووفق الديب، فإن “هذا المزيج المعقد دفع الهند إلى السير في مسارين متوازيين: شراكة اقتصادية مع روسيا، وتعاون استراتيجي مع الولايات المتحدة، دون السماح لأي طرف بجرّها إلى معسكر ضد آخر”.
ويشير إلى أن تصريحات ترامب الأخيرة بشأن الرسوم الجمركية تكشف حجم التراكم في الخلافات، لكنها لا تغيّر حقيقة أن نيودلهي تبنت منذ صعود مودي سياسة خارجية أكثر استقلالية، لا تسعى لرضا القوى الكبرى بقدر ما توازن بين احتياجاتها الداخلية وطموحاتها الدولية.
ويختتم حديثه قائلاً: الهند ترفض أن تكون ورقة في يد أحد؛ فهي تشتري النفط الروسي لأنه أرخص، وتخفض الرسوم الجمركية حين ترى أن الوقت مناسب، وتتمسك بعلاقاتها مع واشنطن على أساس الاحترام المتبادل لا التبعية.