هذا التباين في المواقف يفتح الباب أمام تساؤلات محورية: هل يمثل الموقف الإسرائيلي رفضًا عمليًا للمقترح أم مجرد مناورة تفاوضية؟ ولماذا أبدت حماس مرونة مفاجئة بعد أشهر من التصعيد العسكري؟ وهل تضيع “الفرصة الأخيرة” لوقف الحرب كما وصفها البعض، أم أن الباب لا يزال مفتوحًا أمام جولات جديدة من التفاوض؟
مصادر مصرية أكدت أن المقترح الذي قبلته حركة حماس جاء بضمانة أميركية مباشرة وبرعاية الرئيس دونالد ترامب، وهو ما أضفى عليه ثقلًا سياسيًا مختلفًا عن المقترحات السابقة.
لكن اللافت أن إسرائيل لم تُسلم ردها على المقترح رغم مرور 24 ساعة على استلامه، ما أثار تكهنات حول نوايا نتنياهو الحقيقية.
المصادر ذاتها تحدثت عن أن الحكومة الإسرائيلية أمام “اختبار حقيقي لإنقاذ رهائنها”، معتبرة أن لا سبيل لتحقيق ذلك إلا من خلال المفاوضات على أساس خطة ويتكوف، التي تضمن ـ في حال القبول بها ـ صفقة شاملة تؤدي إلى إطلاق سراح جميع الرهائن.
إذن، الضمانة الأميركية هي العنصر الجديد في المعادلة، لكنها لم تكفِ لإقناع الحكومة الإسرائيلية بالإسراع في الرد، وهو ما يطرح علامات استفهام حول حسابات تل أبيب في هذه المرحلة الحساسة.
حماس والفرصة المتأخرة
قدم الإعلامي المختص في الشؤون الفلسطينية وائل محمود خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية قراءة نقدية لموقف حماس، معتبرًا أن الحركة “تعودت أن تأتي دائمًا متأخرة”.
وأوضح أن الحركة أضاعت فرصًا سابقة لتجنيب غزة المزيد من الدمار، قائلًا: “لو أن حماس منذ البدايات اقتنعت بأن تكون في الصف العربي، لكنا وفرنا على أنفسنا هذا الجهد، ولم تكن جرافات جدعون اليوم على حدود حي الزيتون”.
محمود رأى أن الورقة الحالية ليست جديدة بالكامل، بل هي في جوهرها نفس الورقة الإسرائيلية التي طرحت سابقًا، مع تعديلات طفيفة أجرتها حماس. وبذلك، فإن موافقة الحركة اليوم جاءت بعد أن فقدت الكثير من أوراق الضغط الميدانية، وبعد أن تزايدت خسائر الفلسطينيين إلى حد غير مسبوق.
لكن من منظور آخر، قد يُقرأ موقف حماس كجزء من محاولة لكسب شرعية سياسية في ظل ضغط شعبي وإنساني متعاظم، خاصة مع بروز دور الفصائل الفلسطينية الأخرى في الاجتماعات التي رعتها القاهرة، وهو ما يضفي على قرارها صفة التوافق الوطني وليس مجرد مناورة تكتيكية.
إسرائيل بين الصفقة والاجتياح
ركّز المحاضر في أكاديمية الجليل الغربي، موشيه إلعاد، خلال مداخلته على معضلة نتنياهو في التعامل مع المقترح. فبينما كان رئيس الوزراء قد وافق سابقًا على صفقة إطلاق الرهائن على مراحل، فإنه عاد ليشترط الإفراج عنهم دفعة واحدة، إلى جانب نزع سلاح حماس وطرد قادة الحركة من القطاع.
إلعاد حذر من أن أي اجتياح شامل لمدينة غزة سيعرض سلامة الرهائن للخطر، وهو ما دفع عائلاتهم إلى تنظيم مظاهرات ضخمة تطالب بإعادتهم عبر التفاوض. لكنه لفت أيضًا إلى أن الجيش الإسرائيلي لا يواجه مشكلة في التعبئة والتجنيد، وأن أي قرار سياسي بالاجتياح سيجد استجابة سريعة على المستوى العسكري. إلا أن الانقسام في الموقف الإسرائيلي يبقى قائمًا: هل الأولوية هي استعادة الرهائن أم القضاء على حماس؟ وهل يمكن الجمع بين الهدفين دون دفع ثمن باهظ داخليًا وخارجيًا؟
الضغوط الداخلية على نتنياهو
رأى مدير مكتب صحيفة العرب في القاهرة، محمد أبو الفضل، خلال حواره أن تسريبات مكتب نتنياهو ليست ردًا رسميًا بقدر ما هي محاولة للمناورة الداخلية.
فنتنياهو، بحسب قوله، يسعى إلى إرضاء حلفائه المتشددين مثل بن غفير وسموتريتش الذين يضغطون من أجل “صفقة شاملة” تتضمن نزع سلاح غزة بالكامل.
لكن في المقابل، يواجه نتنياهو ضغطا من عائلات الرهائن التي ترغب في أي صفقة، حتى وإن كانت جزئية، لإنقاذ أحبائها. وقد تجلى هذا الضغط في المظاهرة المليونية التي خرجت أمام منزله، والتي قد تتسع لتشمل قطاعات أخرى، ما يهدد استقرار حكومته.
أبو الفضل أشار إلى أن نتنياهو يسعى أيضا لاستباق أي ضغط أميركي عبر إظهار أنه لا يزال يملك الوقت للمناورة، وهو ما يعكس رغبة مزدوجة: الحفاظ على تماسك تحالفه اليميني من جهة، وتجنب خسارة الدعم الأمريكي من جهة أخرى.
أميركا بين الحليف والضامن
قدم في الأثناء أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج ماسون، ديفيد رمضان، رؤية واضحة للدور الأميركي. فهو يرى أن ترامب يريد حلًا شاملًا للأزمة، وأن الأولوية الأمريكية ليست في تفاصيل الصفقة بقدر ما هي في إنهاء الحرب.
لكن ما تغير، بحسب رمضان، هو أن الخيار العسكري ـ الذي كان مرفوضًا سابقًا ـ أصبح اليوم “مقبولًا على المدى القصير رغم تكلفته الإنسانية الفادحة”، لأنه قد ينهي النزيف الطويل الأمد.
وفي حين يؤكد رمضان أن أمريكا تظل الحليف الأوثق لإسرائيل، فإنه يلفت إلى أن واشنطن ليست شريكًا مباشرًا في صنع القرار العسكري، بل ضامنًا وضاغطًا في المسار التفاوضي.
مصر تعيد التوازن وتستحضر السلطة الفلسطينية
الدور المصري كان الأبرز في دفع المقترح الأخير إلى الطاولة. فالقاهرة لم تكتفِ بالتواصل مع حماس، بل عقدت اجتماعات مع سبعة فصائل فلسطينية في وقت واحد، ما أضفى على المقترح صفة التوافق الوطني.
كما استقبلت رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى، في خطوة تعيد الاعتبار إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها الجهة الوحيدة المعترف بها دوليًا لإدارة مشروع الدولة الفلسطينية.
محمد أبو الفضل لفت إلى أن مصر طرحت أيضًا ترتيبات عملية، مثل تشكيل لجنة إسناد مجتمعي وتدريب المئات من عناصر الشرطة الفلسطينية في مصر والأردن منذ أشهر، ما يعكس تحضيرًا مسبقًا لمرحلة ما بعد الحرب.
هذه الخطوات تعكس رغبة مصرية ـ مدعومة عربيًا ـ في سد الثغرات الأمنية والإدارية التي قد تعيق أي اتفاق، وإظهار أن البديل عن حكم حماس في غزة ليس فراغًا، بل سلطة شرعية قادرة على الإمساك بزمام الأمور.
المأساة الإنسانية كعامل ضغط
الحديث عن المفاوضات والصفقات لا يمكن فصله عن الكارثة الإنسانية في غزة. فبعد نحو عامين من الحرب، تشير التقديرات إلى سقوط أكثر من 60 ألف قتيل فلسطيني، وعشرات الآلاف تحت الأنقاض، فيما يواجه الأطفال خطر الموت جوعًا نتيجة الحصار.
وصف وائل محمود في الاثناء ما يحدث بأنه “حرب تجويع”، مؤكدًا أن أي حديث عن النصر الإسرائيلي يتجاهل الثمن الأخلاقي الهائل الذي تدفعه الإنسانية.
وأوضح أن “لا مجال لاستعادة الرهائن إلا بالموافقة على مباحثات سلام”، محذرًا من أن استمرار الحرب لن يؤدي إلا إلى تعميق المأساة.
هذه الأرقام والمشاهد تخلق ضغطًا داخليًا في إسرائيل، وضغطًا خارجيًا على الولايات المتحدة، حيث أصبح الرأي العام الغربي يرى في استمرار الحرب انتهاكًا غير مقبول للمعايير الإنسانية.
بين الصفقة والاجتياح
المشهد يبدو شديد التعقيد: حماس قدمت موافقتها على المقترح بضمانة أمريكية، فيما ترفض إسرائيل تقديم رد رسمي سريع وتتمسك بشروطها الصارمة.
العوامل الداخلية في إسرائيل ـ من ضغط الأهالي إلى توازنات التحالف الحاكم ـ تتقاطع مع الضغوط الخارجية الأمريكية والعربية، لتضع نتنياهو أمام معادلة صعبة: إما القبول بصفقة قد تُنظر إليها داخليًا كتنازل، أو المضي في خيار عسكري محفوف بالمخاطر على الرهائن والجيش الإسرائيلي نفسه.
لكن الأكيد أن غزة لم تعد مجرد ملف تفاوضي أو ورقة سياسية، بل صارت رمزًا لمأساة إنسانية تضغط على كل الأطراف، وتضعهم أمام اختبار أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا.
قد يظل الباب مفتوحًا لجولات جديدة من التفاوض، لكن كل يوم يمر يعني المزيد من الضحايا، والمزيد من الانقسام، والمزيد من الضغوط على جميع اللاعبين. وبذلك، فإن ما يوصف اليوم بالفرصة الأخيرة لوقف الحرب قد يكون بالفعل آخر خيط أمل لإنقاذ ما تبقى من غزة.