وتُسرّع القواعد الجديدة التي أُقرّت الأسبوع الماضي، عملية إصدار تراخيص مدّ الكابلات البحرية، خصوصاً لجهة دعم انتشار مشاريع الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة. كما شملت القواعد فرض معايير حماية صارمة لكابلات الإنترنت البحرية، عند نقاط وصولها إلى السواحل الأميركية، مع حظر استخدام التكنولوجيا التابعة لدول تعتبرها واشنطن معادية، حيث سيتم رفض طلبات التراخيص التي تتقدم بها تلك الأطراف تلقائياً بموجب قاعدة “افتراض الرفض”.
وحدّدت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية (FCC) قائمة بمعدات الأطراف التي يشملها الحظر، من بينها شركات مثل Huawei وZTE وChina Telecom وغيرها، في حين تشجع القواعد الجديدة الاعتماد على البنية الأميركية، من خلال حوافز لتشغيل سفن صيانة أميركية واستخدام تقنيات موثوقة.
ما دور الكابلات البحرية؟
وتُشكّل الكابلات البحرية عبر المحيطات، العمود الفقري للإنترنت في العالم، حيث تبلغ أطوالها أكثر من 1.48 مليون كيلومتر موزّعة عبر نحو 570 نظاماً في الخدمة، مما يجعلها شبكة الاتصالات الأكثر ضخامة وانتشاراً في العالم.
وتتحكّم هذه الشبكة العميقة في نقل 99 في المئة من حركة البيانات العالمية، بما في ذلك أكثر من 10 تريليونات دولار من المعاملات المالية يومياً، فضلاً عن دورها المحوري في تمرير الرسائل العسكرية الحساسة والاتصالات الحكومية.
ورغم أهميتها الاستراتيجية، تبقى هذه الشرايين الرقمية عرضة للأعطال الناتجة عن أنشطة السفن وعمليات الصيد، فضلاً عن التهديدات الأمنية المتمثلة في التجسس والتخريب من قبل جهات ودول معادية.
من يسيطر على الكابلات البحرية؟
لا توجد جهة واحدة تتحكم بالكابلات البحرية على مستوى العالم، إذ تُعد هذه الشبكة العملاقة مجموعة أصول استراتيجية مُشتركة، تُدار عبر مزيج من التحالفات التجارية والتعاون الدولي، بهدف تحقيق الربحية وضمان التشغيل والصيانة المستمرة.
وتتوزع السيطرة على هذه البنية الحيوية بين عدة أطراف رئيسية هي:
- الاتحادات والتحالفات الدولية (Consortiums): تمثل الغالبية في تشغيل الكابلات العابرة للمحيطات، وتضم شركات اتصالات وكيانات حكومية من عدة دول، مثل مشروع الكابل SEA-ME-WE 4.
- شركات الاتصالات التقليدية: مثل AT&T وVerizon وDeutsche Telekom وChina Telecom، التي تمتلك حصصاً مؤثرة وتشرف على تشغيل جزء مهم من هذه الشبكة.
- عمالقة التكنولوجيا: مثل Google وMeta وMicrosoft وAmazon، الذين يملكون حالياً ما يقارب نصف القدرة الاستيعابية للكابلات البحرية العالمية، سواء عبر مشاريع خاصة أو ضمن تحالفات مشتركة.
ساحة جديدة للصراع التكنولوجي
وبحسب تقرير أعدته “بلومبرغ”، واطّلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن التغييرات التي أجرتها لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية، تأتي كجزء أوسع من الجهود التي تقوم بها أميركا، لتقليص دور الصين في التقنيات الحساسة، حيث قال رئيس اللجنة بريندان كار، إن بلاده ليست فقط في مسعى لتوسيع شبكة الكابلات البحرية، بل تريد أيضاً أن تطمئن أن بنية الإنترنت ما تحت البحار متينة ومحمية، مشيراً إلى أنه في السنوات الأخيرة، شهد العالم تهديدات للبنية التحتية للكابلات البحرية من قبل خصوم أجانب، مثل الصين.
بدورها حذّرت أوليفيا تراستي، مفوضة لجنة الاتصالات الفيدرالية، في بيان لها، من أن الكابلات البحرية معرضة بشكل فريد للتجسس والتخريب والمراقبة، حيث يدرك خصوم أميركا ذلك، لافتة إلى أنه بينما تُوسّع الصين استثماراتها بسرعة في البنية التحتية البحرية، أثبت الجيش الروسي قدرته على تتبع مسارات الكابلات ورسم خرائط لها، وبالتالي فإنه لا يمكن تجاهل هذه المعطيات التي أصبحت بالغة الأهمية اليوم.
الصراع يبلغ مستوى حساس
ويقول مهندس الاتصالات عيسى سعد الدين، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الخطوة التي اتخذتها لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية، تمثل انتقال الصراع الأميركي – الصيني إلى مستوى بالغ الحساسية، وهو السيطرة على عصب الإنترنت العالمي، فالكابلات البحرية ليست مجرد أسلاك تحت الماء، بل هي شرايين رقمية تربط الاقتصادات والأسواق، وتمكّن من تبادل البيانات والمعلومات الاستراتيجية بين الحكومات والشركات، مشيراً إلى أن أي اختراق أو تعطيل لهذه الكابلات يمكن أن يسبب شللاً لحركة التجارة العالمية أو يعطل قطاعات حيوية مثل الخدمات المالية والطاقة، وبالتالي فإن ما تفعله واشنطن اليوم ليس مجرد تشديد للوائح، بل إعادة تعريف لقواعد اللعبة في أمن الفضاء الرقمي العالمي.
جبهة لم تكن في الحسبان
وبحسب سعد الدين فإن الولايات المتحدة ومن خلال ما أقرته مؤخراً، تقول لبقية العالم، إنها مستعدة لوضع خطوط حمراء أمام نفوذ بكين، حتى في أعماق المحيطات، وهو مجال لم يكن جزءاً مباشراً من المنافسة التكنولوجية سابقاً، حيث تدرك واشنطن اليوم، أن السيطرة على الشرايين الرقمية البحرية تعني امتلاك مفتاح تدفق المعلومات والتجارة العالمية، وبالتالي التأثير في موازين القوة الجيوسياسية لعقود قادمة، لافتاً إلى أن أميركا ومن خلال اقرارها للقواعد الجديدة وضعت أسساً تمكنها من عقد تحالفات جديدة تختار هي أطرافها بعناية، لتجسد رؤيتها المستقبلية لأمن الإنترنت، وحماية البنية التحتية الرقمية.
انقسام الإنترنت
ويعتبر سعد الدين أنه من الناحية التقنية، فإن طفرة الذكاء الاصطناعي ستخلق طلباً قوياً على مد كابلات بحرية جديدة، تساهم في نقل البيانات عبر القارات، وهنا تأتي قواعد لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية لتبعث رسالة إلى الأسواق مفادها، أن واشنطن تريد كابلات أسرع وأكثر أماناً بختم جودة أميركي، ولكن هذه السياسة قد تدفع الصين إلى تسريع بناء شبكتها الموازية من الكابلات، مما يقسم الإنترنت إلى فضاءين متوازيين، واحد بقيادة أميركية وآخر بقيادة صينية، وهذا الانقسام سيجعل العالم أمام شبكة إنترنت “مجزأة” جغرافياً وتقنياً، وهو سيناريو قد يعقّد تدفق البيانات والتجارة عبر الحدود، ويؤدي إلى مزيد من التوترات الجيوسياسية في السنوات القادمة.
حماية التدفقات الحيوية
من جهتها تقول المحللة المختصة بالتكنولوجيا دادي جعجع، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الكابلات البحرية تحمل يومياً أكثر من 10 تريليونات دولار من المعاملات المالية، ما يعني أن أي خلل أو تهديد لها يترجم فوراً إلى خسائر اقتصادية، والتحرك الأميركي يهدف بالدرجة الأولى إلى حماية هذا التدفق الحيوي من الأموال وأيضاً من البيانات، ولكنه في الوقت نفسه يعيد رسم خريطة الاستثمار في البنية التحتية للاتصالات، فالشركات الأميركية ستستفيد من الحوافز، بينما قد تجد الشركات الصينية نفسها محرومة من أسواق جديدة، مما يغير ديناميكية المنافسة في قطاع يُقدّر حجمه بمليارات الدولارات سنوياً.
خيارات صعبة أمام الدول
ووفقاً لـ جعجع فإن الدول النامية التي تعتمد على الاستثمارات الصينية في الكابلات البحرية، قد تواجه معضلة، حيث ستكون أمام خياريْن، فإما الانضمام إلى “المظلة الأمنية” الأميركية، أو مواصلة التعاون مع الصين التي تقدم عادة تمويلاً أقل كلفة، غير أن هذا الخيار لن يكون سهلاً بسبب الضغوط التي قد تمارسها واشنطن في هذا المجال، معتبراً أن الانتقال إلى المرحلة الجديدة من حيث توزع النفوذ تحت البحار سيستغرق وقتاً طويلاً، وذلك نظراً لتعقيدات شبكة الكابلات البحرية القائمة وتشابك المصالح المرتبطة بها.
تنافس حاد في أعماق البحار
وتشدد جعجع على أنه إذا نجحت واشنطن في فرض قواعدها الجديدة على نطاق واسع، فإنها ستكسب ميزة استراتيجية على بكين في قطاع البنية التحتية للاتصالات، ما سيمنح أميركا أوراق ضغط إضافية في مفاوضات التجارة والتقنية، في المقابل فإن الصين قد ترد عبر تعزيز نفوذها في مناطق لم تصلها المبادرات الأميركية بعد، مثل إفريقيا وأميركا اللاتينية، لتأسيس “مناطق نفوذ رقمية” تدين لها بالولاء التقني، متوقعةً أن تشهد السنوات المقبلة “سباق أعماق” بين الولايات المتحدة والصين، حيث سيسعى كل طرف لمدّ كابلات جديدة وحماية الموجود منها، وهذا السباق سيحمل في طياته تنافساً اقتصادياً وسياسياً حاداً، ما سيجعل من أعماق البحار ساحة استراتيجية موازية لسباق الفضاء والذكاء الاصطناعي.