33 مليار دولار في 11 شهرًا فقط
بحسب بيانات رسمية، بلغت تحويلات المصريين في الخارج خلال أحد عشر شهرًا فقط نحو 33 مليار دولار، ما يمثل نحو 9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر. هذا الرقم يعادل تقريبًا حجم اقتصاد دول مثل جورجيا، ويضع مصر في المرتبة السابعة عالميًا بين الدول الأكثر تلقّيًا لتحويلات المغتربين، بحسب بيانات البنك الدولي.
صندوق النقد الدولي يتوقع بدوره أن تستمر هذه التحويلات في التصاعد، لتصل إلى 42 مليار دولار سنويًا خلال ثلاث سنوات فقط، ما يعزز رهان القاهرة على المغتربين كمصدر مستدام للنقد الأجنبي.
العوامل المحفزة: من الخليج إلى السياسات المصرفية
يوضح الدكتور محمد أنيس، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، في مقابلة مع برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، أن ما يقرب من 60 بالمئة من العمالة المصرية في الخارج تعمل بدول الخليج، وهي منطقة ما تزال تسجّل معدلات نمو اقتصادي جيدة، خصوصًا في القطاعات غير النفطية، مما يوفر فرصًا واسعة للمغتربين ويعزز قدراتهم على الادخار والتحويل.
ويضيف أنيس: “العامل المصري في الخليج اليوم يستفيد من نهضة اقتصادية حقيقية، وخاصة في الإمارات، حيث تتوسع الأنشطة الاقتصادية غير النفطية، وتفتح فرصًا لاستقطاب مزيد من العمالة المصرية.”
دور صفقة “رأس الحكمة” في تعزيز الثقة
لم يكن النمو في التحويلات وليد الصدفة، بل جاء على خلفية تطورات جوهرية في الاقتصاد المصري. أحد أبرزها كان في مارس 2024، عندما أُبرمت الصفقة الاستثمارية الكبرى في منطقة رأس الحكمة مع أحد الصناديق السيادية لدولة الإمارات، ما ضخّ 35 مليار دولار في شرايين الاقتصاد المصري.
يقول أنيس إن هذه الصفقة كانت نقطة تحوّل: “منذ توقيع هذه الصفقة، تمكنت الحكومة من توحيد سوق الصرف، وربط الجنيه بالدولار بسعر صرف توازني. هذه الخطوة أعادت الثقة إلى النظام النقدي المصري، وشجعت عودة التدفقات المالية، وعلى رأسها تحويلات العاملين في الخارج.”
التحويلات: مدخرات تدخل الاقتصاد مباشرة
التحويلات لا تمثل فقط أرقامًا مالية، بل هي مدخرات شخصية توجه في معظمها إلى الاستهلاك المحلي، مثل شراء العقارات والسيارات، وتمويل التعليم والصحة. ويشدد أنيس على أن هذه التحويلات تدخل بشكل مباشر عبر النظام المصرفي، ويتم تحويلها طواعية من الدولار إلى الجنيه المصري، مما يُعزز من الاحتياطيات النقدية ويقلل الضغط على السوق السوداء.
ويضيف: “عندما يرسل العامل المصري تحويله، هو عمليًا يتنازل عن الدولار طواعية، ويضخ سيولة بالجنيه داخل السوق المصري. هذا لا ينعكس فقط على الطلب المحلي، بل يقوي النظام النقدي ككل.”
خمس روافد أساسية للنقد الأجنبي
يُصنف الدكتور أنيس تحويلات المصريين في الخارج ضمن أهم خمسة روافد للنقد الأجنبي في مصر، إلى جانب إيرادات قناة السويس، والسياحة، والصادرات، والاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ويشير إلى أن تحويلات المغتربين تختلف في كونها أموالاً شخصية مملوكة لمواطنيين، وليست إيرادات حكومية. لكن رغم ذلك، فإنها تدخل مباشرة في النظام المصرفي وتُحسب ضمن ميزان المدفوعات المصري، ما يجعلها بالغة التأثير على الاستقرار المالي والنقدي.
نحو استثمارات وليس استهلاكًا فقط
رغم أهمية التحويلات الحالية، يشدد أنيس على أهمية تحويل جزء من هذه التدفقات إلى استثمارات منتجة، لا سيما في ظل الاهتمام المتزايد من المغتربين بالمشاركة في السوق العقارية والصناعية. ويقول:
“إذا تمكنا من إزالة العوائق البيروقراطية أمام الاستثمار، فإن تحويلات المصريين بالخارج لن تقتصر فقط على تغطية الاستهلاك، بل ستتحول إلى استثمارات منتجة، وهو ما يعزّز النمو طويل الأمد.”
الاستقرار النقدي: الأساس لكل شيء
يختتم أنيس تحليله بالتأكيد على أن الاستقرار المالي والنقدي هو القاعدة الأساسية لأي تحفيز لتحويلات المغتربين. ويقول: “طالما استقر سعر الصرف الحقيقي عند المستوى التوازني، فإن الثقة ستبقى عالية، وستستمر التحويلات في الارتفاع.”
في بلد يعاني من تحديات اقتصادية هيكلية، تمثل تحويلات المصريين في الخارج صمام أمان فعّال لدعم الميزان النقدي وضمان تدفق العملة الصعبة. ومع التوجهات الحكومية الجديدة والمبادرات المصرفية الجاذبة، يبدو أن مصر قد تدخل مرحلة جديدة من الاعتماد الاستراتيجي على أبنائها في الخارج، ليس فقط كمصدر للدخل، بل كشريك في التنمية.