جاء ذلك وسط موافقة أوروبية على شراء منتجات طاقة أميركية بقيمة 750 مليار دولار، وضخ استثمارات إضافية بقيمة 600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، تضاف إلى 5.7 تريليون دولار تمثل الحجم الإجمالي للاستثمارات الأوروبية الحالية في الولايات المتحدة.
وبينما يتم الترويج لهذا الاتفاق على أنه تجنّب لحرب تجارية كانت ستهز الأسواق العالمية، يرى مراقبون أنه كشف بجلاء عن سطوة واشنطن وضعف القارة العجوز، بل وتبعيتها الاقتصادية المتزايدة لأميركا، في وقت تتصاعد فيه الانتقادات داخل أوروبا حول مضمون الصفقة وأثرها طويل الأمد على الصناعات الأوروبية.
اتفاق سياسي بامتياز.. وألمانيا الخاسر الأكبر
وفي حديث لبرنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، وصف ناصر زهير، رئيس وحدة الشؤون الدبلوماسية والاقتصادية في المنظمة الأوروبية، الاتفاق بأنه أقرب إلى تسوية سياسية قسرية منه إلى تفاهم اقتصادي ناضج، مشيرًا إلى أن “الاتحاد الأوروبي خضع للضغوط الأميركية تحت ذريعة تجنّب التصعيد التجاري، ولكن الثمن كان باهظًا، خصوصًا بالنسبة للصناعات الألمانية”.
وأضاف: “نسبة الـ15 بالمئة وإن كانت أقل من التهديد السابق بـ30 بالمئة، إلا أنها لا تزال مرتفعة جدًا وتضر بالمصالح الصناعية الأوروبية، خاصة أن ألمانيا تعتبر الولايات المتحدة شريكها التجاري الأول”.
وأكد زهير أن المستشار الألماني فريدريش ميرتس ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني عبّرا عن قبول مضطر للاتفاق، معتبرين أنه “أفضل الممكن”، في حين أعربت فرنسا واتحاد الصناعات الألماني عن استيائهما من تنازلات بروكسل.
غاز أميركي بدل الروسي.. وتجميد لمشاريع السيادة الدفاعية
ومن أبرز تبعات الاتفاق، التزام الاتحاد الأوروبي بشراء الطاقة الأميركية بشكل سنوي، ما يعني أن “عودة الغاز الروسي إلى السوق الأوروبية باتت شبه مستحيلة حتى لو انتهت الحرب في أوكرانيا”، بحسب زهير، الذي رأى في ذلك “تثبيتًا لتحول استراتيجي دائم في مصادر الطاقة الأوروبية”.
أما على المستوى الدفاعي، فقد اعتبر زهير أن خطة التصنيع العسكري الأوروبي المشترك التي أُقرت قبل شهرين بموازنة 500 مليار يورو أصبحت مهددة، لأن الاتفاق الجديد يفرض على دول الاتحاد شراء أسلحة أميركية بقيمة 600 مليار دولار، ما يعني عمليًا تبديد تمويل السيادة الدفاعية الأوروبية وإخضاعها لمنظومة الناتو بقيادة واشنطن.
أدوات ضغط أميركية متجددة.. وغياب الثقة
وفي نظرة أوسع، أشار زهير إلى أن الولايات المتحدة باتت تملك “أداة ضغط سياسية واقتصادية” تمكّنها من فرض تعديلات مستقبلية على الاتفاقات التجارية الأوروبية، كلما رأت ضرورة في ذلك، مستغلّة تشتت القرار الأوروبي وهشاشة موقف المفوضية.
وأكد أن واشنطن ستضغط لاحقًا لفتح الأسواق الأوروبية بالكامل أمام المنتجات الأميركية دون قيود، بما فيها القطاع الزراعي، وهو ما قد يضرب القدرة التنافسية الأوروبية، لا سيما أن “الولايات المتحدة تتفوق زراعيًا، بينما تعتمد أوروبا على دعم حكومي مستمر لهذا القطاع”.
تباين في قراءة البنود وتضارب في الروايات
رغم توقيع الاتفاق، لا تزال التفاصيل قيد التفاوض بين اللجان المختصة، وسط تضارب في الروايات؛ فبينما يقول ترامب إن “الأدوية معفاة من الرسوم”، تشير مصادر أوروبية إلى أنها مشمولة بنسبة 15 بالمئة.
وبحسب زهير، فإن الاتحاد الأوروبي يحاول تقليل الأضرار عبر خفض رسوم الصلب والألمنيوم من 50 بالمئة إلى 25 بالمئة، ومحاولة ضم طائرات وأشباه الموصلات وقطع الغيار إلى لائحة الإعفاء، لتفادي موجة تضخم جديدة، خصوصًا أن “أي زيادة بنسبة 15 بالمئة في الرسوم الجمركية قد تمحو كل الجهود المبذولة لتخفيض التضخم
ضرب للصناعات الألمانية.. والقرار الأوروبي مرتهن
يرى زهير أن الصناعة الألمانية ستكون المتضرر الأول، لكونها الأكثر تصديرًا للسلع الثقيلة إلى السوق الأميركية.
وأضاف: “توقيع اتفاق تجاري باسم أوروبا جاء فعليًا على حساب الاقتصاد الألماني”.
ويتابع: “هذا الاتفاق أظهر أيضًا الفشل المؤسسي داخل الاتحاد الأوروبي، فخلافات باريس وبرلين، وامتلاك كل دولة من الدول الـ27 حق الفيتو، تعني غياب أي سياسة موحدة في مواجهة الولايات المتحدة”.
ويُحذر زهير من أن غياب التوافق الأوروبي قد يكرّس التبعية لواشنطن لعقود، مشيرًا إلى أن “دولًا عديدة داخل الاتحاد لا تزال تصر على البقاء تحت المظلة الأميركية سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، في حين تنادي دول أخرى، بقيادة فرنسا، ببناء استقلالية أوروبية حقيقية”.
اقتصاد أوروبي هش.. وغياب القدرة على المواجهة
في ظل أزمة نمو اقتصادي صفرية في ألمانيا، وتراكم الديون في فرنسا، وأزمة مالية متفاقمة في إيطاليا، يرى زهير أن أوروبا لا تملك رفاهية خوض حرب تجارية مع الولايات المتحدة.
وقال: “على عكس الصين، التي يمكنها الدخول في نزاع تجاري طويل، يعاني الاتحاد الأوروبي من ضعف داخلي يجعل المواجهة مكلفة للغاية… قد يكون الوقت المناسب لمثل هذه المواجهة لاحقًا، ولكن في الوقت الحالي، الوضع كارثي”.
نحو نظام حصص أميركي.. وضرب للعدالة التجارية
في خلاصة تحليله، أشار زهير إلى أن ما حدث لا يمثل تصحيحًا للميزان التجاري، بل فرض أميركي لنظام حصص على المنتجات الأوروبية، دون تنافسية حقيقية.
واعتبر أن ما فرضه ترامب على أوروبا يفتقد العدالة ويضر بمبادئ التجارة الحرة، مضيفًا: “نحن أمام اتفاق يُلزم أوروبا بفتح أسواقها دون ضمانات مقابلة… الأمر يشبه التبعية أكثر من الشراكة”.
أوروبا تشتري السلام الاقتصادي.. لكن بثمن السيادة
يكشف الاتفاق الأخير بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن تحول في موازين القوة الاقتصادية والسياسية، حيث لم تعد بروكسل نداً لواشنطن، بل شريكًا تابعًا يرضخ لتوجيهاتها.
وفي ظل ضعف القرار الأوروبي، وتشتت المواقف بين العواصم الكبرى، يبدو أن البيت الأبيض بقيادة دونالد ترامب قد نجح في توظيف الأزمة التجارية لفرض أجندته السياسية والاقتصادية، وهو ما سيتضح أكثر مع كشف تفاصيل الاتفاق خلال الأسابيع المقبلة.