ووفقًا لتقارير دولية، ستواصل البنوك المركزية موجة شراء ضخمة للذهب، في مشهد يعيد إلى الأذهان تحركات ما بعد الحرب الباردة، ولكن هذه المرة مدفوعة بعوامل أكثر تعقيداً، من تضخم يتصاعد في اقتصادات كبرى، وصولًا إلى صراعات محتدمة مثل تلك بين روسيا وأوكرانيا أو إسرائيل وإيران، وهي أزمات تدفع المؤسسات النقدية إلى إعادة النظر في تركيبة احتياطاتها وتوزيع مخاطرها بعيدًا عن الأدوات المالية الغربية التقليدية.
وسط هذا المناخ، بات واضحًا أن الذهب استعاد مكانته كملاذ آمن لا غنى عنه، ليس فقط للمستثمرين، بل وللبنوك المركزية الكبرى والصاعدة على حد سواء. فمن دوره كمخزن للقيمة في أوقات الاضطراب، إلى قدرته على تأمين استقرار طويل الأمد في مواجهة الأزمات النقدية، يبرز المعدن الأصفر كأصل استراتيجي يحظى بثقة المؤسسات المالية السيادية.
في هذا السياق، يكشف تقرير لـ “بلومبيرغ” عن أن نسبة قياسية من البنوك المركزية في العالم تخطط لتجميع المزيد من الذهب على مدى الـ 12 شهراً المقبلة، مدفوعة بأداء السبائك الذهبية خلال أوقات الأزمات والحماية من التضخم.
في استطلاع شمل 72 سلطة نقدية، توقع 43 بالمئة منهم زيادة احتياطياتهم من الذهب، مقارنة بـ 29 بالمئة في العام السابق، وهو أعلى رقم في ثماني سنوات، وفقاً للبيانات التي جمعها مجلس الذهب العالمي ومؤسسة يوغوف. ولم يتوقع أيٌّ منهم انخفاضاً.
- كانت البنوك المركزية من أهم محركات ارتفاع أسعار الذهب المستمر منذ فترة طويلة، والذي شهد تضاعف الأسعار منذ أواخر عام 2022.
- تضاعفت وتيرة الشراء بعد الحرب في أوكرانيا، عندما سلّط تجميد معظم احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية الضوء على جاذبية السبائك الذهبية كأصل احتياطي.
عبرت الغالبية العظمى من المشاركين عن اعتقادهم بأن احتياطيات الذهب لدى البنوك المركزية ستزداد عالمياً خلال الاثني عشر شهراً القادمة. وكانت العوامل الأكثر شيوعاً التي ذُكرت لأهمية حيازة الذهب هي أدائه خلال الأزمات، ودوره في تنويع المحفظة الاستثمارية، وكمخزون للقيمة.
- استحوذت البنوك المركزية على أكثر من ألف طن من الذهب خلال كل سنة من السنوات الثلاث الماضية، ومن المتوقع أن تواصل وتيرة الشراء هذه هذا العام، وفقاً لشركة ميتالز فوكس الاستشارية.
- و ظلت هذه البنوك مشترين صافين للذهب على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، مما عكس اتجاه صافي المبيعات الذي أدى إلى هبوط السوق على مدار عقد من الزمان في التسعينيات.
سببان رئيسيان
الشريك المؤسس لإكاديمية ماركت تريدر لدراسات أسواق المال، عمرو زكريا عبده، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: إن سبب إقبال البنوك المركزية على زيادة حيازتها من الذهب يعود إلى عاملين؛ الأول مالي/إقتصادي والآخر جيوسياسي.
أما لجهة العامل الأول (المالي- الإقتصادي)، فيقول: إن صعود الذهب بقوة نتيجة الطلب الكبير لعوامل مختلفة دفع البنوك المركزية لشراء الذهب للاستفادة من صعوده خاصة في ظل عدم اليقين بخصوص سياسات إدارة ترامب الإقتصادية وسياسات الفيدرالي الأميركي النقدية تحت ضغط الرئيس ترامب المتواصل على الفيدرالي الأميركي لتخفيض سعر الفائدة.
بينما لجهة العامل الثاني (الجيوسياسي) فيضيف: في ظل التوترات الجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا وحالياً بين إسرائيل وإيران، يتحوط المزيد من البنوك المركزية من احتمالية إستخدام الولايات المتحدة العقوبات المالية على بعض الدول مما سيخفض جاذبية السندات لصالح الذهب.
تأثير الأزمات
وبحسب مجلس الذهب العالمي:
- يُعد أداء الذهب خلال الأزمات، وتنويع المحافظ الاستثمارية، والتحوط من التضخم من بين المحاور الرئيسية التي تُحفّز خطط جمع المزيد من الذهب خلال العام المقبل من قبل البنوك.
- إضافةً إلى ذلك، لا تزال البنوك المركزية تُثمّن خصائص الذهب الفريدة ودوره كأصل استراتيجي، إذ لا يزال أداءه في أوقات الأزمات، وقدرته على العمل كمخزون للقيمة، ودوره كعامل تنويع فعال، تُعتبر أسبابًا رئيسية لتخصيص استثمارات للذهب.
- تراكم لدى البنوك المركزية أكثر من ألف طن من الذهب في كل من الأعوام الثلاثة الماضية، وهو ما يزيد بشكل كبير عن المتوسط الذي تراوح بين 400 و500 طن على مدى العقد السابق.
- حدث هذا التسارع الملحوظ في وتيرة التراكم على خلفية من عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي، الأمر الذي ألقى بظلاله على التوقعات بالنسبة لمديري الاحتياطيات والمستثمرين على حد سواء.
الملاذ الآمن
خبيرة أسواق المال، حنان رمسيس، تقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “تشهد البنوك المركزية في الفترة الحالية اهتماماً ملحوظاً لتعزيز مشترياتها من الذهب، وذلك في إطار سعيها للحفاظ على قيمة العملات المحلية أمام تصاعد معدلات التضخم، وكذلك لتأمين استثمارات تحقق عوائد مستقرة تُسهم في الوفاء بالتزاماتها المالية، خاصة تلك المتعلقة بأسعار الفائدة للمودعين وشهادات الادخار”.
وترى أن غالبية البنوك المركزية أصبحت تميل إلى تقليص استثماراتها والتركيز على الذهب، في ظل عدم وضوح الرؤية الاقتصادية، وتراجع النشاط بأسواق المال، فضلًا عن الانكماش الملحوظ في حجم التداولات والخسائر الكبيرة التي لحقت بالعديد من الأسهم المقيدة، سواء في الأسواق المحلية أو العالمية.
وتستطرد: “ولذلك نجد أن الذهب يُمثل حالياً أحد أبرز الملاذات الآمنة، حيث يوفر استقراراً في القيمة، بالإضافة إلى عائد نقدي يمكن للبنوك الاعتماد عليه في تغطية التزاماتها، مما يعزز استقرار القطاع المصرفي بشكل عام”، منبهة إلى أنه ” مع تزايد الاضطرابات الجيوسياسية، أصبحت الكثير من الخيارات الاستثمارية محفوفة بالمخاطر، نتيجة التقلبات الحادة,. لذلك الذهب هو الخيار الأكثر أماناً واستقراراً في الوقت الراهن، وهو ما يدفع البنوك المركزية إلى تعزيز حيازتها منه”.