البعثة التي ضمت عناصر من جامعتي فروتسواف ووارسو، ومتحف غدانسك البولندي، لم تحدد بشكل دقيق تاريخ التوصل لهذه الاكتشافات الجديدة، والتي من أبرزها العثور على بحيرة ملحية قديمة قرب جبل “المويلحة”، في قلب صحراء بيوضة، كانت مصدرا لـ”النطرون”، وهو معدن نادر استُخدم في الماضي للتحنيط، وكذلك في إنتاج الزجاج والسيراميك.
وكانت بعثة ألمانية عملت في نفس المنطقة لأكثر من 13 عاما، قد قالت في وقت سابق، إن ما تحويه الصحراء الممتدة على مساحة 140 ألف كيلومتر مربع أكبر بكثير مما هو معلن.
وقال الباحثون البولنديون إنهم حددوا 448 موقعا جديدا، وأعادوا فحص 126 موقعا معروفا سابقا، كما أشاروا إلى إجراء أعمال تنقيب في 88 موقعا، منها 36 مقبرة، و55 مستوطنة.
ووفقا للباحثين، فإن الاكتشافات تغطي طيفا واسعا من التاريخ، بما في ذلك أدوات حجرية من العصر “الأولدواني”، يعود تاريخها إلى ما بين 2.6 و1.7 مليون سنة، وتمثل أقدم صناعة أدوات معروفة في العالم، وصولا إلى مستوطنات ومقابر العصور الوسطى.
وشملت أقدم المواقع، التي اكتشفت في الأجزاء الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية من الصحراء، قطعا أثرية من العصر “الأشولي”، منها فؤوس يدوية كبيرة ثنائية الوجه.
نشاط واسع
ووفقا لمحمد التوم، الذي يعمل بأمانة الكشف الأثري بالهيئة العامة للآثار والمتاحف، فإن منطقة بيوضة شهدت نشاطا مسحيا وكشفيا قامت به بعثة من جامعة مونستر الألمانية على مدى 13 عاما، تم خلالها تسجيل أكثر من 150 ألف موقع في المنطقة الممتدة من وادي أبدوم بمنطقة مروي وحتى تخوم مدينة الدامر في ولاية نهر النيل.
وقال التوم لموقع “سكاي نيوز عربية”: “إضافة إلى ماقامت به الجامعات والمتاحف البولندية من أعمال مسوحات وكشوفات أثرية، عملت جامعة مونستر بقيادة بروفيسور أنغليكا لوفاسر، بالمنطقة المعروفة بوادي أبدوم خلال الفترة من 2009 وحتى 2022 حيث توقفت الأعمال بسبب الحرب.
وأشار التوم إلى أن تلك المسوحات والاكتشافات توصلت إلى تحديد أنماط حياتية تمتد إلى “العصور الحجرية وفترة كرمة، ومن المحتمل فترة نبتة ومروي، وفترة مروي المتأخرة، أو ما تعرف بفترة ما بعد مروي، وأخيرا الفترة المسيحية أو فترة العصور الوسطي”.
ثراء ومخاوف
تتميز المناطق الواقعة في شمال السودان بثراء أثري كبير، حيث تقف المواقع الأثرية شاهدة على تواصله الحضاري بدءا من العصور الحجرية وحتى العصرين المسيحي والإسلامي.
وتعتبر “كوش” في شمال السودان واحدة من أقدم الحضارات في العالم، وتقع الحضارة الكوشية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين في قلب منطقة النوبة الممتدة من شمال مدينة كرمة على طول نحو 500 كيلومترا جنوبا.
وكانت منطقة كوش من أقدم الحضارات العالمية التي عرفت نظام الحكم بشكله الحديث الحالي؛ وعرفت قبل 5 آلاف سنة بالدولة القوية؛ واشتهرت كمركز ثقافي وعسكري رئيسي في العالم.
ويعتقد على نطاق واسع أن المواقع الأثرية الحالية لحضارة كوش تضم آثارا لها أهمية تاريخية كبيرة، إضافة إلى ثروات ضخمة من الذهب والعاج والنحاس واللبان وخشب الأبنوس والفخار.
وتذخر المنطقة، بالعديد من المواقع الأثرية الدينية والمدنية والجنائزية التي تعود إلى فترات تاريخية مختلفة، وتوجد آثار يعتقد أن عمرها يصل إلى أكثر من 500 ألف سنة وتضم بقايا لمساكن بشرية تشير إلى أن المنطقة كانت مكانا لأقدم المستوطنات البشرية.
وفي حديث سابق لموقع “سكاي نيوز عربية”، أكدت شادية عبدربه، المختصة في الآثار والمهتمة بمجال حماية التاريخ فإن المنطقة مرشحة للدخول في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، مشيرة إلى أنها ظلت لعقود من الزمان محل اهتمام خبراء الآثار.
لكن مختصين وخبراء آثار أبدوا مخاوفهم من أن يفقد السودان جزءا كبيرا من مخزونه الأثري بسبب العبث الذي يطال مواقع تاريخية.
وتسببت أنشطة تعدين وتنقيب “عشوائية” و”منظمة” في أعمال تخريب واسعة النطاق طالت آثارا يعود تاريخها إلى العصر الحجري القديم.
وكشفت تقارير عن عمليات تهريب وسرقات كبيرة طالت العديد من القطع الأثرية والأدوات الخاصة بالطقوس مثل المباخر، وأواني الطعام والشراب المصنوعة من الفخار، والمجوهرات وغيرها من القطع الأثرية القيمة.
وإضافة إلى التعديات البشرية، فقد دفنت الرمال المتحركة بفعل الزحف الصحراوي الواسع الذي تشهده المنطقة، العشرات من الألواح الأثرية عالية القيمة.