هذا التحول اللافت لا يمكن تفسيره فقط من خلال أدوات الاقتصاد التقليدية. فروسيا، التي تكبدت خسائر تُقدَّر بـ1.2 تريليون دولار منذ بداية الحرب في فبراير 2022، والتي شهدت إفلاس نحو مليون مواطن و25 ألف شركة، نجحت رغم كل شيء في ضبط عملتها وتحويلها إلى واجهة لصمود اقتصادي مفاجئ.
ميكانيكا الصعود: توجيهات بوتين ومركزة القرار النقدي
يرى ستانيسلاف ميتراخوفيتش كبير الباحثين في الصندوق الوطني الروسي لأمن الطاقة خلال حديثه إلى برنامج “بزنس مع لبنى” على “سكاي نيوز عربية” أن الانضباط النقدي كان المحرك الأساسي في تحصين الروبل.
ويكشف عن دور مباشر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في توجيه السياسات المالية: “الرئيس بوتين قدّم توجيهات مباشرة للبنك المركزي لضبط التضخم والتحكم في أي تراجع للعملة، وهذا مكّن الروبل من الصمود أمام الضغوط، مقارنةً بالدولار الذي يعاني من تباينات.”
هنا لا نتحدث عن أدوات السوق المفتوحة فقط، بل عن تدخل رئاسي مباشر لضبط الإيقاع المالي والنقدي. وبخلاف الغرب، الذي يفصل بين السلطات المالية والسياسية، مزجت روسيا بين السياسة والاقتصاد لإنقاذ عملتها من السقوط.
هذا النموذج المركزي قد يبدو تقليديًا في الاقتصاد الليبرالي، لكنه في الحالة الروسية شكّل صمام أمان وسط أزمة مركبة.
النفط يعبر شرقًا: محور بكين-نيودلهي كخيار استراتيجي
في زمن العقوبات الغربية، كان على روسيا أن تجد أسواقًا بديلة لتصدير نفطها. ومع انخفاض الطلب الأوروبي، شق النفط الروسي طريقه إلى آسيا بحسب ما اشار إليه ميتراخوفيتش خلال حديثه الى سكاي نيوز عربية حيث قال: “قمنا بتوجيه صادرات النفط نحو الصين والهند، وهاتان الدولتان أصبحتا جمهورًا كافيًا لتعويض الفاقد الأوروبي.”
روسيا لم تكتفِ بإعادة توجيه النفط، بل بنت شبكة لوجستية ومالية موازية عبر موانئ بديلة وشراكات مصرفية جديدة، خاصة مع دول كتركيا وعدد من البلدان الإفريقية. ورغم أن بعض الدول الأوروبية – مثل اليونان – صعبت عمليات النقل، فإن القنوات البديلة أثبتت فعاليتها.
المحصلة، تدفقات مالية ثابتة بالروبل أسهمت في زيادة الطلب على العملة، وعززت من قوتها مقابل الدولار.
التكنولوجيا… الثغرة التي لم تُغلق بعد
في المقابل، يعترف ميتراخوفيتش أن القطاع التكنولوجي الروسي تلقى ضربات موجعة يصعب تجاوزها بالبدائل الآسيوية: “قطاع التكنولوجيات هو الأكثر تأثرًا بالعقوبات. غياب البرمجيات والتكنولوجيا الغربية عطّل بعض مجالات الإنتاج.”
ولتجاوز هذه الفجوة، لجأت روسيا إلى استخدام مكونات من الصين و”برامج بديلة”، لكن هذا التكيّف كان جزئيًا ولم يشمل الصناعات النفطية السائلة الأكثر تعقيدًا.
هذا يعني أن صعود الروبل ليس شاملًا ولا يخفي هشاشة بعض القطاعات، بل يُظهر نجاحًا في جوانب محددة (كالطاقة والسياسات النقدية) مقابل ضعف واضح في مجالات التكنولوجيا الفائقة والابتكار الصناعي.
سيناريوهات الصدام القادم: ما بعد العقوبات؟
مستقبل الروبل لا يرتبط فقط بالمعطيات الاقتصادية، بل أيضًا بالتطورات السياسية – خصوصًا ما يتصل بالعلاقة مع الغرب والولايات المتحدة.
ويتوقع ميتراخوفيتش أن يظل الاتحاد الأوروبي محدود التأثير في الجولة القادمة من المواجهة الاقتصادية: “لا أظن أن أوروبا تملك أدوات جديدة فعالة ضد الاقتصاد الروسي، أما أمريكا، فقد تلجأ إلى قيود جديدة على الواردات.”
لكن المفاجئ في كلامه هو إشارته إلى إمكانية تفاهم مستقبلي بين ترامب وبوتين، خاصة في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض: “أعتقد أن ترامب وبوتين يمكن أن يتوصلا إلى اتفاق مستقبلي… وإذا فشلت المحادثات، فالصين والهند وتركيا سيتداخلون لتعديل الكفة.”
هنا يلمّح ميتراخوفيتش إلى مرونة استراتيجية قد تعتمدها روسيا لاحقًا: الانفتاح الدبلوماسي مع واشنطن إن سمحت الظروف، والعودة للتحالفات الآسيوية في حال فشل ذلك.
هل الروبل صاعد دائمًا؟ الوجه الآخر من القصة
بالرغم من المؤشرات الإيجابية، فإن استدامة صعود الروبل ليست مضمونة. فروسيا ما زالت دولة تحت حصار مالي واقتصادي، وتشغيل عملتها القوية يتطلب تدفقات نقدية مستمرة، واحتياطات نقد أجنبي كبيرة، ونظام مصرفي مرن.
لكن كما يقول ميتراخوفيتش: “إذا فُرضت رسوم جمركية جديدة، ستتكيف روسيا. ربما تنخفض عملتنا قليلًا، لكن لن تكون كارثة”، هذا التصريح يعكس واقعية روسية جديدة: الروبل لن يبقى صاعدًا دائمًا، لكنه على الأقل لن يسقط كما حدث في بدايات الحرب.
الروبل… صعود سياسي أم إنجاز نقدي؟
يُعيدنا نجاح الروبل في 2025 إلى سؤال أعمق: هل نحن أمام إنجاز نقدي اقتصادي حقيقي؟ أم أن العملة الروسية تحولت إلى رمز سياسي لصمود موسكو في وجه الغرب؟ في الحالتين، الرسالة وصلت.
فرغم العقوبات، والإفلاس الجماعي، والعزلة التكنولوجية، تقول روسيا للعالم: “اقتصادنا لم يسقط… وعملتنا تتحدث عن نفسها.”
قد تكون هذه مرحلة مؤقتة، وقد تأتي تغيّرات دولية تُعيد الحسابات. لكن الروبل، في هذا العام تحديدًا، كتب اسمه بين عملات العالم المتقدمة. وذلك في حد ذاته، انتصار اقتصادي يفرض نفسه وسط العاصفة.