وتحت عنوان “هل تستطيع اليابان الحفاظ على شركاتها التي لا غنى عنها؟”، تناول تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، التحدي الذي تواجهه اليابان في الموازنة بين الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية – بما في ذلك عروض الاستحواذ العدائي (Hostile Takeover) – وبين حماية تفوقها التكنولوجي وأمنها الاقتصادي في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد، خصوصاً مع الصين.
وفي هذا السياق، تناول التقرير عدة محاور رئيسية، أهمها تصاعد عروض الاستحواذ العدائية على شركات يابانية متخصصة في تقنيات حساسة من قبل شركات أجنبية، مثل عرض شركة Yageo التايوانية لشراء Shibaura.
ويشار إلى أن Yageo هي ثاني شركة أجنبية تحاول تنفيذ عملية استحواذ غير مرغوب بها على شركة يابانية منذ دخول توجيهات الاندماج والاستحواذ الجديدة حيّز التنفيذ في 2023. جاء هذا العرض في إطار اندفاع أوسع من قبل شركات أجنبية وصناديق استثمارية خاصة لاقتناص الشركات اليابانية الصغيرة والمتوسطة التي تهيمن على قطاعات تكنولوجية متخصصة.
كما أبرَزَ التقرير في السياق نفسه مخاوف من تسرب التكنولوجيا الحساسة إلى جهات أجنبية، لا سيما تلك المرتبطة بالصين، مما يهدد موقع اليابان في سلاسل التوريد العالمية.
وسلط التقرير الضوء أيضاً على محاولات الحكومة اليابانية وضع أطر تنظيمية جديدة (مثل آليات الفحص والاستشارة قبل مشاركة التكنولوجيا الحساسة)؛ للحفاظ على “التفوق التكنولوجي” الذي تتميز الشركات اليابانية به.
ولفت التقرير إلى القلق من أن يؤدي الانفتاح المفرط إلى فقدان السيطرة على الشركات التي تعتبر “أبطالًا في الأسواق المتخصصة” والتي تلعب دورًا غير ظاهر ولكن بالغ الأهمية في التقنيات العالمية (مثل الألياف البصرية، المكثفات، والمواد العازلة الدقيقة). ويشير في السياق نفسه إلى جدل داخلي بين من يرى في الانفتاح فرصة لتطوير الشركات وفتحها على العالم، ومن يخشى أن يؤدي ذلك إلى “بيع كل شيء” للأجانب مقابل مكاسب قصيرة المدى.
سياسة دقيقة
في تعليقه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يؤكد رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، أن اليابان تتبع سياسات دقيقة للحفاظ على تفوقها التكنولوجي في ظل تصاعد عمليات الاستحواذ الأجنبية على الشركات المتخصصة.
ويوضح أن طوكيو كانت في طليعة الدول التكنولوجية لعقود، لكنها فقدت جزءاً من هذا التفوق لصالح الولايات المتحدة والصين. واليوم، تستعيد اليابان وهجها التكنولوجي عبر تنظيم الاستثمار الأجنبي، لا سيما في القطاعات المرتبطة بالأمن القومي.
ويشير إلى أن:
- هناك حاجة ملحة لوضع ضوابط واضحة للمستثمرين الأجانب، تضمن ألا تكون هناك أغلبيات أجنبية في ملكية الشركات الحيوية، مع تشجيع الاستثمار الداخلي وتوفير الحماية القانونية للقطاعات الاستراتيجية، خاصة تلك المرتبطة بالملكية الفكرية والذكاء الاصطناعي.
- في الوقت نفسه، الحكومة اليابانية تدعم عمليات الاندماج والاستحواذ بين الشركات المحلية لتعزيز تنافسيتها، ما يمنحها قدرة أقوى على مواجهة التحديات العالمية.
كما ينوّه إلى دور المؤسسات الكبرى مثل SoftBank، والتي تُعد من أبرز الداعمين للابتكار الياباني في مجالات الذكاء الاصطناعي، مشدداً على أهمية التمويل المحلي من قبل المستثمرين اليابانيين لضمان استقلالية هذه القطاعات وحمايتها من التأثيرات الخارجية.
ويختتم حديثه بقوله:
- “في ظل التوترات الجيوسياسية والتجارية، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، تبرز أهمية القطاع التكنولوجي الياباني، ولا سيما في مجال أشباه الموصلات”.
- “ومن هنا، يأتي دعم الحكومة للتعاون بين القطاعين العام والخاص كركيزة أساسية لتعزيز الابتكار واستدامة الريادة التكنولوجية اليابانية.”
مخاوف “الاحتكار”
في سياق متصل، قالت لجنة التجارة العادلة اليابانية، في تقرير نُشر يوم الجمعة الماضي، حول تحقيقها في سوق الذكاء الاصطناعي التوليدي، إن قيام عمالقة التكنولوجيا بدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي الخاصة بهم في منتجاتهم الحالية بهدف التدخل في أعمال الشركات المنافسة، قد يُعد “بيعاً مشروطاً” أو “احتكاراً خاصاً” ينتهك قانون منع الاحتكار، وفق ما نقله تقرير لمنصة japannews.
ويُظهر التقرير وجود توجه متزايد في السوق الرقمية لدى الشركات التقنية الكبرى – لا سيما غوغل وآبل وميتا وأمازون ومايكروسوفت- لدمج خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي الخاصة بها ضمن منتجاتها. فعلى سبيل المثال، باتت نتائج البحث في غوغل تتضمن ملخصات تُنتج عبر الذكاء الاصطناعي، فيما أدرجت مايكروسوفت تقنيات مماثلة في برامج أوفيس مثل “وورد” لمساعدة المستخدمين في إعداد المستندات.
وأفاد التقرير بأن شركات منافسة في مجال تطوير الذكاء الاصطناعي أعربت للجنة عن مخاوفها من أن تكتسب الشركات المهيمنة ميزة في توزيع تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي من خلال دمج هذه التقنيات في خدماتها الرقمية القائمة، ما قد يصعّب على الشركات الجديدة إقناع المستخدمين باعتماد منتجاتها.
وأوضحت اللجنة أن دمج منتجات الذكاء الاصطناعي التوليدي في الخدمات الرقمية من قبل عمالقة التكنولوجيا وغيرهم يُعد “أحد أساليب الابتكار التكنولوجي، ولا يُعتبر هذا الفعل في حد ذاته مشكلة مباشرة بموجب قانون منع الاحتكار”. لكنها أضافت أن هذا السلوك قد يكون مخالفاً للقانون إذا كان الهدف منه إعاقة أعمال المنافسين أو زيادة العوائق أمام دخول السوق.
وفيما يتعلق بدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في الهواتف الذكية، أعربت بعض الشركات ذات الصلة عن قلقها، إذ قالت إحدى الشركات إن “تقييد الوصول إلى البرمجيات اللازمة لتشغيل الذكاء الاصطناعي التوليدي الخاص بنا سيؤدي إلى إضعاف قدرتنا التنافسية”.
وبما أن غوغل وآبل تحتكران أنظمة التشغيل الأساسية للهواتف الذكية، فقد رأت اللجنة أن مثل هذه القيود على الوصول قد تُعد أيضاً “تدخلاً في معاملات المنافسين” وهو ما يُشكل انتهاكاً محتملاً لقانون منع الاحتكار.
ثلاث ركائز
ويقول خبير أسواق المال، محمد سعيد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- “وسط تصاعد وتيرة الاستحواذات الأجنبية على الشركات اليابانية المتخصصة في التقنيات المتقدمة، تواجه طوكيو تحدياً بالغ الحساسية يتمثل في كيفية الحفاظ على التفوق التكنولوجي الياباني، دون الإخلال بضرورات الانفتاح الاقتصادي”.
- “هذا التحدي يتطلب من اليابان تبنّي استراتيجية متعددة الأوجه تجمع بين الحماية الذكية والانخراط المدروس في الشراكات الاستراتيجية”.
ويرى سعيد أن هناك ثلاث ركائز أساسية يتعين أن تشكل إطار السياسات الدفاعية في هذا السياق:
أولًا: تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، كما نرى في مشروع الأقمار الصناعية الدفاعية الذي يُدار من خلال مبادرة التمويل الخاص، وهذا النموذج يتيح دمج التقنيات التجارية مع الأهداف الأمنية، مع الحفاظ على السيطرة الحكومية على المشاريع ذات الحساسية العالية، والاستفادة في الوقت ذاته من الابتكارات التي تقدمها الشركات الناشئة.
ثانياً: ضرورة صياغة تشريعات مرنة للاستثمار الأجنبي، إذ يتعين فرض قيود انتقائية على عمليات الاندماج والاستحواذ في القطاعات التكنولوجية الحساسة، مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الفضاء، دون غلق الباب أمام الاستثمارات في المجالات الأخرى.. تجربة استحواذ “فوكسكون” على “شارب” عام 2016 كشفت عن الحاجة لآليات أكثر فاعلية لتقييم الصفقات ذات الأبعاد التكنولوجية المعقدة.
ثالثًا: دعم الابتكار المحوري عبر توجيه الاستثمارات الحكومية نحو مجالات تمتلك فيها اليابان بنية تحتية بحثية متقدمة، مثل الحوسبة الكمومية وتكنولوجيا الفضاء.. ومن النماذج المهمة هنا معهد علوم وتكنولوجيا الابتكار الدفاعي، الذي أطلقته وكالة ATLA، كجسر يربط بين البحث الأكاديمي والتطبيقات العسكرية.