وبينما تتلاقى العقول والتقنيات في أبوظبي، يصبح السؤال ملحاً: كيف تُسرّع الشراكات التكنولوجية ريادة الصناعة الإماراتية على الساحة العالمية؟ والأكثر جوهرية، كيف تُحقق الصناعات المتقدمة قفزة نوعية للاقتصاد الوطني؟
في قلب أبوظبي، انطلقت فعاليات الدورة الرابعة من “اصنع في الإمارات”، لتعلن عن مرحلة مهمة في طموحات الدولة نحو بناء قطاع صناعي رائد عالمياً. وتحت شعار “تسريع الصناعات المتقدمة”، اجتمع نخبة من القادة والخبراء والمستثمرين، مؤكدين على الأهمية المتزايدة للابتكار والتكنولوجيا في رسم مستقبل الصناعة الوطنية. وبينما تستعرض المنصة أحدث التقنيات والفرص الاستثمارية في مختلف القطاعات الحيوية، يتضح أن الهدف يتجاوز مجرد تعزيز الإنتاج، ليلامس بناء منظومة صناعية متكاملة وقادرة على المنافسة عالمياً.
شراكات استراتيجية بوابة للابتكار
وتولي دولة الإمارات اهتماماً خاصاً بتعزيز الشراكات التكنولوجية كأحد المحركات الرئيسية لتحقيق طموحها في ريادة الصناعات المتقدمة عالمياً، وتعد منصة “اصنع في الإمارات” حاضنة لهذه الشراكات الاستراتيجية، حيث تجمع بين الخبرات الدولية والقدرات المحلية بهدف تسريع تبني أحدث التقنيات وتوطين المعرفة.
ولا يقتصر الهدف من التركيز على الصناعات المتقدمة في “اصنع في الإمارات” على تطوير القطاع الصناعي فحسب، بل يمتد ليشمل تحقيق تحول اقتصادي نوعي. يُنظر إلى تبني التكنولوجيا المتقدمة والابتكار في التصنيع كأدوات قادرة على تنويع مصادر الدخل، وخلق فرص عمل ذات قيمة مضافة عالية، وتعزيز تنافسية الدولة على المستوى العالمي.
ويرى خبراء اقتصاد أن الشراكات التكنولوجية تمثل ركيزة أساسية في تسريع ريادة الصناعة الإماراتية، في ظل توجه الدولة نحو ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للصناعات المتقدمة. ويؤكد الخبراء أن دمج الابتكار بالتقنيات الحديثة لا يُعزز فقط من جودة الإنتاج وكفاءته، بل يفتح آفاقاً جديدة أمام الاقتصاد الوطني من خلال تنويع مصادر الدخل وخلق فرص عمل نوعية.
وأشاروا إلى أن الصناعات المتقدمة تُعد محرّكاً رئيسياً للنمو الاقتصادي، كونها ترفع من القيمة المضافة للمنتج وتعزز من قدرة الدولة على المنافسة العالمية، لا سيما عندما تكون مدعومة بشراكات استراتيجية مع شركات رائدة عالمياً.
الصناعات المتقدمة تخلق وظائف نوعية
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي: “الصناعات المتقدمة هي بوابة الاقتصاد المعرفي وطريق للاستدامة الاقتصادية ويقود الدولة نحو الريادة الصناعية العالمية، فهي تعد محرّكاً رئيسياً للنمو الاقتصادي لأنها ترفع القيمة المضافة للمنتج، إذ بدلاً من تصدير المواد الخام أو المنتجات الأولية، تضيف الصناعات المتقدمة ابتكاراً وتكنولوجيا تجعل المنتج أكثر ربحية وتنافسية عالمياً.
ولفت إلى أن الصناعات المتقدمة التي تعتمد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تخلق وظائف نوعية، وقال: “هذه الصناعات تحتاج إلى مهارات عالية، وهذا يرفع من كفاءة سوق العمل ويزيد من دخول الأفراد”.
وأضاف القمزي: “إن الصناعات المتقدمة تحفّز سلاسل التوريد المحلية، فكل مصنع متقدم يحتاج إلى شبكة من الموردين، من شركات برمجيات إلى شركات لوجستية، ما يعزز الاقتصاد المحلي، وهي بذلك تجذب الاستثمارات الأجنبية للدولة التي تتبنى الصناعات المتقدمة لأنها تصبح وجهة للمستثمرين الباحثين عن بيئة صناعية متطورة، ونتيجة لكل ما سبق ينعكس هذا على تقوية الميزان التجاري ويزيد من صلابة الاقتصاد”.
وأوضح الخبير الاقتصادي القمزي أنه لا يمكن الحديث عن نهضة صناعية دون التوقف عند أهمية الشراكات الاستراتيجية، سواء كانت بين القطاعين العام والخاص، أو مع شركات عالمية رائدة.
وأكد أن هذه الشراكات تُسرّع نقل التكنولوجيا، وتفتح أبواب التدريب وبناء القدرات، وتُسهّل الوصول إلى الأسواق والتمويل، مشيراً على سبيل المثال، إلى أنه عندما تتعاون شركة إماراتية مع مصنع عالمي في مجال الطيران أو التكنولوجيا الحيوية، فإنها تختصر سنوات من التجربة، وتنتقل مباشرة إلى خطوط إنتاج منافسة عالمياً.
مشروع 300 مليار.. خارطة طريق صناعية
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي هاشم عقل، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية، في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “إن الشراكات التكنولوجية تُعد من أبرز العوامل التي تسرّع ريادة الصناعة في دولة الإمارات، لا سيما في ظل المبادرات الحكومية الطموحة مثل “اصنع في الإمارات” و”مشروع 300 مليار”.
وأوضح أن هذه المبادرات تهدف إلى تعزيز الابتكار واعتماد التكنولوجيا الحديثة في القطاع الصناعي، بما يساهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام ويدعم تنافسية الدولة على المستوى العالمي.
وأشار عقل إلى أن دولة الإمارات تواصل تسريع التحول التكنولوجي عبر استراتيجيات واضحة المعالم، أبرزها “مشروع 300 مليار”، الذي يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية هي: تعزيز الابتكار، وتطوير البنية التحتية الصناعية، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وأكد أن هذه الاستراتيجية تسعى إلى رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي، وتعزيز موقع الدولة كوجهة صناعية وتقنية رائدة.
وذكر أن الشراكات الاستراتيجية بين القطاعين العام والخاص تمثل ركيزة أساسية في تنفيذ هذه الرؤية، لافتاً إلى دور مصرف الإمارات للتنمية كشريك رئيسي من خلال توفيره لمحفظة مالية مخصصة لدعم القطاعات الصناعية المختلفة. وأكد أن هذا الدعم يُمكن الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة من تحديث تقنياتها ورفع كفاءتها الإنتاجية.
كما أضاف أن الحكومة أطلقت برامج متقدمة مثل “برنامج الصناعة 4.0” الذي يهدف إلى تسريع التحول الرقمي في القطاع الصناعي، من خلال دعم الشركات في تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي، والأتمتة، وإنترنت الأشياء. واعتبر أن هذه الخطوات تعزز من كفاءة الإنتاج وتدعم تنافسية الصناعات الوطنية.
ونوّه الخبير الاقتصادي عقل إلى أن الإمارات تعمل أيضاً على خلق بيئة استثمارية محفّزة عبر تقديم حوافز مالية وضريبية، ما يسهّل دخول المستثمرين إلى السوق المحلي، ويفتح المجال أمام تعاون مثمر بين الشركات المحلية والدولية، الأمر الذي يسهم في تطوير الصناعات المحلية وزيادة صادراتها.
نتائج ملموسة وتقدم ملحوظ
وفي السياق ذاته، أكد، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية عقل أن تعزيز المحتوى الوطني في المنتجات الصناعية يمثل أولوية ضمن الاستراتيجية الصناعية، حيث يسهم ذلك في خلق فرص عمل للمواطنين، ويدعم الاستدامة الاقتصادية، ويعزز من حضور المنتجات الإماراتية في الأسواق العالمية.
واختتم عقل تصريحه بالإشارة إلى أن التقارير الرسمية أظهرت ارتفاع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 11 بالمئة في عام 2024، بنمو نحو 57 بالمئة مقارنةً بعام 2020، ما يعكس فعالية السياسات والمبادرات التي انتهجتها الدولة. وشدد على أن هذه النتائج تؤكد قدرة الصناعات المتقدمة على إحداث نقلة نوعية في الاقتصاد الإماراتي، عبر تعزيز الابتكار، وزيادة فرص العمل، وتحقيق نمو متوازن ومستدام بعيداً عن الاعتماد على النفط.