وبحسب تقرير أعدته “ذي إيكونوميست” واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن البيانات الرسمية تظهر أن أسواق الإيجارات في بعض المناطق شهدت مؤخراً جنوناً في الأسعار، فمثلاً في أستراليا، كان معدل تضخم الإيجارات أعلى بثماني مرات مما كان عليه في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في حين ارتفعت الإيجارات في البرتغال بنسبة 7 في المئة على صعيد سنوي.
وفي فرنسا بلغ معدل تضخم الإيجارات 2.5 في المئة على أساس سنوي، وهو معدل قد يبدو للوهلة الأولى الأولى ليس بكبير، ولكنه بعيد كل البعد عن معدل 0.3 في المئة الذي كان يُسجل سنوياً قبل جائحة كوفيد-19، والمستغرب أنه حتى في البلدان التي تشهد ركوداً في سوق بيع العقارات، تُسجّل سوق الإيجارات ارتفاعات مذهلة، فمثلاً في نيوزيلندا انخفضت أسعار المنازل بنسبة 15 في المئة عن ذروتها، في حين أن الإيجارات أصبحت أعلى بنسبة 14 في المئة مما كانت عليه.
أما فيما يخص الولايات المتحدة، فقد أشار تقرير صادر عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي العام الماضي، إلى أن تحديات دفع الإيجار زادت في عام 2023، مع ارتفاع متوسط مدفوعات الإيجار الشهرية بنسبة 10 في المئة.
نفقات شهرية مُرهقة
وبالنسبة للعديد من المُستأجرين، وخاصة الفقراء منهم، تُمثل هذه الزيادة نفقات شهرية إضافية مُرهقة، ما يدفعهم إلى تقليص إنفاقهم على الاحتياجات الأساسية أو البحث عن مساكن أقل جودة وفي مناطق بعيدة عن أماكن عملهم.
3 عوامل ساهمت بارتفاع الإيجارات
ووفقاً لتقرير “ذي إيكونوميست” يوجد عدة عوامل ساهمت في ارتفاع الإيجارات في الاقتصادات المتقدمة خلال السنوات القليلة الماضية، منها السياسة النقدية التي اتبعها المركزي الأميركي برفع أسعار الفائدة، والتي انسحبت على معظم البنوك المركزية في مختلف دول العالم، فمثلاً في أميركا ارتفع متوسط أسعار الفائدة على القروض العقارية لمدة 30 عاماً من 2.7 في المئة في عام 2020 وهو أدنى مستوى له على الإطلاق، إلى ما يقارب 7 في المئة حالياً.
وقد أدى هذا الارتفاع في الفائدة إلى جعل الكثير من الأشخاص غير قادرين على تحمل تكلفة شراء منزل، واضطرّ هؤلاء إلى استئجار منزل بدلاً من ذلك، علاوةً على ذلك، سارع مُلّاك العقارات الذين لديهم قروض عقارية ذات سعر فائدة مُتغير، إلى تحميل المستأجرين تكاليف أعلى. ووفقاً لدراسة حديثة أجرتها جامعة كاليفورنيا (بيركلي)، فإن أي زيادة قدرها نقطة مئوية واحدة في أسعار الفائدة يمكن أن تساهم برفع أسعار الإيجارات بنسبة تصل إلى بنسبة 5.5 في المئة.
أما العامل الثاني الذي ساهم في ارتفاع أسعار إيجارات المنازل في الاقتصادات المتقدمة هو الهجرة، حيث أن توافد المهاجرين إلى “الدول الغنية” مثل بريطانيا واستراليا وأميركا فاقم مشكلة الإيجارات، إذ نادراً ما يمتلك الوافدون الجدد المال أو السجل الائتماني اللازم لشراء عقار، مما يدفعهم إلى البحث عن مساكن للإيجار.
وإلى جانب مشكلة المهاجرين، يواجه قطاع الإيجار أيضاً ضغطاً بسبب تناقص المعروض، فقد دفعت جائحة كوفيد-19 شركات البناء إلى التوقف عن بناء الشقق، التي عادةً ما تكون مؤجرة للعائلات، فمثلاً في عام 2020، انخفضت تراخيص بناء المساكن للعائلات في سان فرانسيسكو في أميركا إلى نصف ذروتها قبل الجائحة، وحتى اليوم، يمتلئ مركز المدينة بالشقق التي لم يتم انجاز بنائها بعد.
السياسة النقدية تفاقم أسعار الإيجارات
ويقول المطور العقاري إيلي عبود في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن السياسة النقدية لعبت دوراً حاسماً في ارتفاع أسعار الإيجارات، فعندما بدأت البنوك المركزية برفع الفائدة لكبح التضخم، لم يؤدِّ ذلك فقط إلى زيادة تكلفة القروض العقارية، بل جعل الحصول على تمويل لشراء منزل أكثر صعوبة، ما دفع العديد من المشترين المحتملين، إلى تأجيل قرار التملك، والبقاء في سوق الإيجارات لفترة أطول، في حين قام المستثمرون العقاريون، الذين واجهوا تكاليف تمويل أعلى، إلى تعويض هذه التكاليف بزيادة الإيجارات، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الضغوط على المستأجرين، وخلق حلقة مفرغة من ارتفاع التكاليف وصعوبة الوصول إلى السكن الميسر.
ويشدد عبود على أن ارتفاع أسعار الإيجارات الذي يحدث في عدد من الدول الغنية، ليس ناتجاً عن عامل واحد، بل هو نتيجة مزيج معقد من العوامل الهيكلية والاقتصادية، فخلال كورونا لم تكن وتيرة بناء الوحدات السكنية الجديدة في كثير من المدن، كافية لمواكبة النمو السكاني والتغيرات في أنماط السكن، حيث أدت مرونة العمل عن بُعد، إلى تحولات في أنماط السكن، ما عزز الطلب في بعض المناطق التي لم تكن تشهد ضغطاً سكانياً في السابق، في حين أن مشكلات سلاسل التوريد وارتفاع أسعار المواد الأولية بسبب عمليات الإغلاق، جعلت المطوّرين العقاريين أكثر حذراً في إطلاق مشاريع جديدة.
تضخم مستعص
ويشرح عبود أنه رغم تراجع مستوى التضخم في العديد من الدول الغنية، ورغم توقف ارتفاع أسعار الفائدة، إلا أن الإيجارات لا تزال مستقرة عند مستوياتها المرتفعة، حيث أن السبب في ذلك هو أن ملاك العقارات، لا يعكسون التغيرات الاقتصادية على الفور، بل يطبقون أي تخفيضات محتملة في الأسعار بشكل تدريجي، وبفارق زمني عن بقية القطاعات، مشيراً إلى أنه حتى عندما تنخفض تكاليف السلع والخدمات الأخرى، تبقى الإيجارات مرتفعة، لأن عقود الإيجار تُجدد بفواصل زمنية طويلة، وغالباً ما يتم استغلال ذلك من قبل أصحاب العقارات، لتعويض أي خسائر سابقة أو لمواكبة مستويات الطلب القوي على السكن، ومن هنا جاءت مقولة إن تضخم الإيجارات يُعد تضخماً مستعصياً في كثير من الأحيان.
إيجارات المنازل إلى أين؟
من جهته يقول الوسيط العقاري ألبير معوّض، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن التضخم في إيجارات المنازل قد يكون بلغ ذروته، ولكن الانخفاضات الكبيرة ليست مضمونة في المستقبل القريب، حتى مع استقرار أسعار الفائدة وتباطؤ الهجرة، فاستمرار الضغوط على المستأجرين يعتمد على مدى سرعة تعافي قطاع البناء، ومدى توافر التمويل العقاري، والسياسات الحكومية المتبعة، لافتاً إلى أن العديد من اقتصادات العالم تشهد حالة عدم يقين بسبب الحروب التجارية القائمة، واحتمال أن تتطور الأمور لما هو أسوأ، وهو ما قد ينعكس ضبابية بالنسبة لسوق الإيجارات، علماً أن قطاع البناء يحتاج إلى وقت طويل لتعويض النقص في المعروض السكني، الذي تراكم خلال السنوات الماضية، بالإضافة إلى أن التكاليف المرتفعة للإنشاءات، لا تزال تُبطئ وتيرة بناء وحدات جديدة.
وبحسب معوّض فإن السياسات الإسكانية والإصلاحات المحتملة، قد يكون لها تأثير كبير في الفترة المقبلة، فبعض الحكومات قد تتجه إلى فرض مزيد من الضوابط على الإيجارات، بينما قد تدعم حكومات أخرى بناء المزيد من المساكن لخفض الأسعار، في حين قد تلجأ حكومات إلى فرض ضرائب أعلى، على العقارات غير المشغولة للحد من المضاربة، وتحفيز العرض في السوق، ومع ذلك، فإن أي اضطرابات سياسية أو اقتصادية مفاجئة، قد تؤدي إلى مزيد من عدم اليقين، مما قد يعرقل تراجع أسعار إيجارات المنازل ويزيد من الضغوط على المستأجرين، وفي ظل هذه العوامل المتشابكة، يبقى مستقبل الإيجارات في الاقتصادات المتقدمة، مرهوناً بتفاعل السياسات الحكومية مع التحديات الاقتصادية العالمية.