ومن بين أبرز هذه الوعود، يأتي إعلان الحكومة الانتقالية عن زيادة الرواتب بنسبة تصل إلى 400 بالمئة، في خطوة تهدف إلى تحسين دخل المواطن وتعزيز القدرة الشرائية في ظل الارتفاع الكبير في أسعار السلع والخدمات.
ورغم أهمية هذا الإجراء في تخفيف معاناة شريحة واسعة من المواطنين، يبرز التساؤل حول جدوى تطبيقه في ظل التحديات المالية القائمة، لا سيما أن زيادة الأجور تتطلب ضخ كتل نقدية هائلة قد تؤدي إلى تضخم جديد.
فهل ستتمكن هذه الزيادة من رفع مستوى المعيشة، أم أنها قد تفاقم الأزمة بتأثيرها على الأسعار؟
كان سعر صرف الليرة السورية في عام 2010 قبل الحرب التي شهدتها البلاد مستقراً نسبياً، حيث بلغ حوالي 46 ليرة مقابل الدولار، وخلال الحرب شهدت العملة انهياراً حاداً، لتصل إلى أكثر من 22000 ليرة مقابل الدولار عند سقوط نظام بشار الأسد في فجر يوم الأحد الثامن من ديسمبر 2024.
كما بلغ التضخم مستويات قياسية مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية بأكثر من 2000 بالمئة، وفي ظل هذا الوضع انخفض دخل العاملين بشكل كبير، حيث أصبح راتب الموظف الحكومي لا يتجاوز 30 دولاراً شهرياً، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات كبيرة.
وفقدت الليرة السورية، 42 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي يوم سقوط النظام السابق في الثامن من ديسمبر الجاري، لتصل إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة بلغت 22 ألف ليرة للدولار الواحد، لكنها سرعان أظهرت مؤشرات تعاف مفاجئة خلال اليومين التاليين، لتسجل مستويات 16 ألف ليرة مقابل الدولار في أسواق دمشق، قبل أن تستقر عند 15 ألف ليرة مقابل الدولار بحسب نشرة مصرف سورية المركزي الخميس.
نسبة الزيادة افتراضية غير مستندة إلى دراسات اقتصادية
بدوره، أكد الدكتور نضال الشعار، كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” ووزير الاقتصاد السوري السابق، في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الإعلان عن رفع الرواتب بنسبة 400% يحمل أبعاداً واضحة، إذ تسعى الحكومة الجديدة لرسم صورة إيجابية تُظهر اهتمامها بالمستوى المعيشي للمواطن السوري.
إلا أنه أشار إلى أن هذه النسبة تبدو افتراضية وغير مستندة إلى دراسات وتحليلات اقتصادية معمّقة، بل تهدف بشكل أساسي إلى إرضاء الناس.
ويشرح الدكتور الشعار أن هذه الزيادة في الرواتب، إذا ما أُقرت، ستؤدي إلى تأثيرات اقتصادية معقدة. فمن جهة، ستُضخّ الأموال الإضافية في الأسواق، مما يرفع الطلب الكلي على السلع والخدمات.
هذا سيؤدي حتماً إلى ارتفاع في المستوى العام للأسعار بشكل سريع، وهو ما قد يحبط الآمال بتحسين المستوى المعيشي. ومن جهة أخرى، سيزداد الطلب على الدولار لأن العملية الإنتاجية متوقفة حالياً وسيضطر أغلب التجار للاستيراد لتلبية احتياجات السوق، مما سيؤدي إلى انخفاض سعر صرف الليرة السورية وتراجع في القوة الشرائية.
وأشار الشعار إلى أن هناك فرصة لتخفيف هذا التأثير إذا ما تم إيداع المليار دولار التي أعلنت قطر عن تقديمها كمساهمة في المصرف المركزي السوري. هذا الإيداع، بحسب الشعار، قد يساعد في الحد من ارتفاع سعر صرف الدولار، مما يوفر بعض الاستقرار الذي يمكن أن يخفف من الآثار السلبية لزيادة الرواتب.
ضبط المستوى العام للأسعار
لكنه شدد على ضرورة إرفاق هذه الإجراءات بآليات فعالة لضبط المستوى العام للأسعار، في ظل ضعف المؤسسات المسؤولة عن مراقبة السوق ورفع المستوى المعيشي للمواطنين.
وختم وزير الاقتصاد السوري السابق حديثه بالإشارة إلى أن سورية تعيش في حالة صدمة اقتصادية واجتماعية معقدة، حيث تتطلب إدارة هذا الوضع خبرات متخصصة وكفاءات قادرة على التعامل مع التحديات. مشيراً إلى أن تحسين الأوضاع الحالية لن يكون بالسلاسة التي قد يتوقعها البعض، بل يحتاج إلى تخطيط مدروس وإدارة فاعلة لتجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح.
زيادة الرواتب ليست حلاً اقتصادياً وتخفيض الأسعار هو المسار الأنجح
من جانبه، أكد المستشار الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أنه لا يؤيد زيادة الرواتب كحل اقتصادي، بل يرى أن تخفيض الأسعار هو المسار الأنجح لتعزيز قيمة الليرة السورية وتحسين القدرة الشرائية.
وحذر من تكرار الخطأ الذي وقع فيه النظام السابق برفع الأجور، وهو سياسة وصفها بأنها غير مناسبة للوضع الحالي في سورية.
وأوضح الدكتور القاضي أن زيادة الأجور تتطلب كتلة نقدية ضخمة، مشيراً إلى أن موازنة عام 2025 التي قدمتها حكومة الرئيس السابق تبلغ نحو 52.6 تريليون ليرة سورية، في حين تصل كتلة الرواتب الشهرية إلى 30 تريليون ليرة.
وإذا تم تنفيذ وعود زيادة الرواتب بنسبة 400 بالمئة، فإن كتلة الرواتب ستقفز إلى 120 تريليون ليرة شهرياً. وطرح تساؤلاً حول مصدر توفير هذا المبلغ في ظل عدم طباعة عملة جديدة.
ودعا الحكومة الانتقالية إلى اتخاذ خطوات مدروسة بهذا الشأن، مشيراً إلى أن لديها الخبرات اللازمة لإدارة مثل هذه التحديات. ولفت إلى أن زيادة الرواتب تؤدي عادة إلى ارتفاع الأسعار، وهو ما يؤثر سلباً على كافة شرائح المجتمع.
وبيّن أن القطاع العام السوري كان يضم نحو 1.6 مليون عامل من أصل 5.2 مليون، أي نحو ثلث القوة العاملة، مما يعني أن أي زيادة في الأجور ستقتصر على شريحة صغيرة بينما يتضرر الجميع من ارتفاع الأسعار.
وأكد المستشار الاقتصادي الدكتور القاضي أن الحل الأمثل يكمن في رفع القوة الشرائية من خلال تخفيض الأسعار، وهو الهدف الذي ينبغي أن يسعى إليه المصرف المركزي لضبط التضخم في سورية.
دعم العملة الوطنية أولوية
وفيما يتعلق بطباعة عملة جديدة، أوضح أن هذه الخطوة تتطلب دراسة شاملة وإمكانية تنفيذها في ظل الظروف الراهنة، مشيراً إلى أن الكتلة النقدية المتوفرة في سورية قد تتجاوز 500 تريليون ليرة، ما يجعل استبدال العملة الحالية عملية تستغرق وقتاً وتكلفة عالية.
وشدد على ضرورة دعم العملة الوطنية كأولوية، ودعا اللجنة الخاصة بمراقبة المضاربين إلى اتخاذ إجراءات صارمة لمنع الصرافين من بيع كميات كبيرة من الدولار، مقترحاً تحديد سقف يتراوح بين 1000 و5000 دولار، على أن يتم توفير مبالغ أكبر لمن يريد عبر المصرف المركزي بالسعر الرسمي. كما حث على مراقبة المضاربين والتأكد من عدم تلاعبهم بأسعار العملة لضمان استقرار السوق.
وختم الدكتور القاضي بأن “التنمية الاقتصادية وإنعاش الاقتصاد السوري هو الطريق الأمثل لخفض الأسعار وضبط التضخم على ألا يتعدى النسب العادية 3 إلى 4 بالمئة ويخلق فرص عمل أكثر مما يؤدي إلى رفع القوة الشرائية لدى العامل ويرفع من مستوى معيشته، وذلك من خلال ضخ استثمارات كبيرة سورية وعربية ودولية.