ويفرض التغير في المناخ وظواهر ارتفاع درجات الحرارة والجفاف والفيضانات، تحديات اقتصادية نتيجة ما قد يحدثه من نقص في الإنتاج الزراعي يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء؛ مما يترتب عليه ارتفاع معدلات التضخم، حيث يصبح الغذاء أكثر تكلفة، إلى جانب ما تسببه الكوارث الطبيعية من تدمير للبنية التحتية، الأمر الذي يُوصل لذات النتيجة وهي ارتفاع التكاليف وزيادة التضخم.
أيضًا، يمكن أن يكون لتغير المناخ تأثيرات أكثر تعقيدًا على الاقتصاد. إذ يمكن أن يأتي ارتفاع مستوى البحر على العقارات الساحلية، مسببا خسائر اقتصادية كبيرة، ومن ثم يصبح تكلفة إعادة البناء والتعافي أعلى.
في الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى تغييرات في أنماط الاستهلاك، مما يحدث تقلبات في الأسعار وموجات من التضخم. وفي التقرير تحليل لعلاقة التفاعل بين تغير المناخ وارتفاع معدلات التضخم والأوجه المختلفة لهذه الارتباطات، واستكشاف سيناريوهات مستقبلية “عنيفة”.. وغير ذلك من التأثيرات.
ويمكن تلخيص بعض من أوجه الارتباط، فيما عددٍ من النقاط، على النحو التالي:
- تأثيرات تغير المناخ على الإنتاج الزراعي: زيادة درجات الحرارة وتغيرات في نمط الأمطار تؤثر بشكل كبير على الإنتاج الزراعي. كما أن انخفاض إنتاج المحاصيل يمكن أن يؤدي إلى نقص في الإمدادات وزيادة في أسعار الغذاء.
- الكوارث الطبيعية وتكلفة التأمين: زيادة في حدوث الكوارث الطبيعية بسبب تغير المناخ تزيد من تكاليف التأمين. بينما ارتفاع تكاليف التأمين ينعكس سلبًا على الشركات والاقتصادات.
- تأثيرات ارتفاع درجات الحرارة على استهلاك الطاقة: زيادة في استخدام وحدات التبريد والتدفئة بسبب التقلبات الجوية، ويدفع ارتفاع في أسعار الطاقة إلى ارتفاع التضخم.
- الهجرة والنزوح: زيادة الكوارث البيئية تسبب في تصاعد حالات الهجرة والنزوح، وبما يشكل ضغطاً إضافياً على الاقتصادات المستقبلة يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع التضخم.
تقود تلك التأثيرات إلى سيناريوهات مستقبلية عنيفة، بما في ذلك ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، ونقص في الإمدادات الغذائية، وتكاليف التأمين والاستعادة، وتصاعد التوترات الاجتماعية الناجمة عن زيادة في حالات الهجرة والنزوح تؤدي إلى تصاعد التوترات الاجتماعية، وهي التوترات التي يمكن أن تسبب اضطرابات اقتصادية وتضخم.
قضايا الساعة
من جانبه، يشدّد مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، بلال شعيب، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، على أن قضيتي تغير المناخ وارتفاع معدلات التضخم هما “موضوعا الساعة” لما لهما من تأثير اقتصادي وفاتورة اقتصادية عانت منها الدول المتقدمة على قدر المساواة مع الدول النامية، معتبراً أن العالم كله اليوم يواجه مشكلة ظواهرها اقتصادية لكن لها أسبابا أخرى وهي أسباب طبيعية.
ويضيف شعيب، أن من بين أبرز التحديات التي تنتج عن أزمة تغير المناخ اليوم، وبما لها من انعكاسات اقتصادية لافتة “مشكلة نقص المحاصيل الزراعية”؛ هذه المشكلة التي لها آثار اقتصادية كبيرة جداً أدت إلى نقص المعروض الكمي للسلع الاستراتيجية وخاصة القمح والذرة والحبوب بشكل كامل؛ ما أدى إلى زيادة في القيمة وارتفاع الأسعار، وهذا أيضاً نتيجة نقص الرقعة الزراعية حول العالم بفعل تغيرات المناخ.
يستشهد هنا بـ “القمح” الذي كانت هناك وفرة في إنتاجه حتى العام 2021 وكان سعر الطن نحو 265 دولاراً ليصل الآن إلى 500 دولار للطن؛ ما يعني أن نسبة الزيادة تجاوزت حاجز الـ 80 بالمئة.
ومن بين الإشكالات التي يثيرها التغير المناخي كذلك “الانحراف أو الاضطراب المناخي”، ذلك أن الفصول المناخية حدثت بها تغيرات كبيرة؛ فالشتاء أصبح لا يأتي في فترته المناخية، والصيف امتد أكثر، بالتالي إنتاجية الحبوب قلت، ناهيك عن الفيضانات والجفاف وغيرها من الظواهر المرتبطة بالمناخ، وبما لها من تأثيرت على الاقتصادات.
كذلك تعاني بعض الدول من السقيع بشكل كبير؛ ما يمثل ضغطاً كبيراً على الطاقة؛ وهو ملف ملف مهم جداً؛ خاصة أن العالم يعتمد بشكل كبير على الطاقة الأحفورية، فبالتالي عندما يأتي السقيع في أوروبا يفتح شهية المستهلكين لاستعمال المزيد من وسائل التدفئة، ومن ثم التأثير على كمية الوقود المستخدمة؛ الأمر الذي يكون له بالغ التأثير على زيادة الطلب عن مستويات المعروض من النفط حول العالم؛ ما يؤثر على ارتفاع أسعار المحروقات بشكل كبير.
“وربما العكس بالنسبة للدول الإفريقية؛ فعلى سبيل المثال في مصر رأينا في فترة الصيف الماضي الذي كان شديد الحرارة اتسع المدى الزمني لها فبدلا من أن ينتهي في شهر سبتمبر نحن الآن في شهر نوفمبر ومازالت درجة الحرارة مرتفعة إلى حد ما.. ارتفاع درجات الحرارة أيضاً يعني ارتفاع فاتورة الكهرباء والمزيد من الوقود.. واليوم نرى القفزة النوعية في كمية الطلب على الطاقة الكهربائية متزامنة مع الاستخدام الشخصي واستهلاك المصانع”، وفق شعيب.
ويعدد أوجه ارتفاعات الأسعار المرتبطة بالطاقة، والتي تضغط على معدلات التضخم، في ظل ارتفاع أسعار النفط وما يرتبط به من خدمات شحن وخلافه (..)، في الوقت الذي انخفضت فيه على الجانب الآخر القوة الشرائية للأفراد؛ نتيجة تباطئ النمو الاقتصادي بالمقارنة بزيادة التعداد السكاني؛ ما دفع منظمة الغذاء العالمية للتأكيد على أن نحو 10 بالمئة من سكان العالم يواجهون مخاطر نقص التغذية الحاد؛ ما يعني أنه لا يتوفر لهم الحد الأدنى للعيش، الأمر الذي ينذر بكارثة حقيقية.
تضافر الجهود
ويرى الخبير الاقتصادي، أنه أمام هذه المعطيات يحتاج العالم الآن لتضافر الجهود؛ من أجل تعديل مسار الاقتصاد؛ لتصبح هناك تنمية مستدامة واقتصاد قائم على الهيدروجين الأخضر والطاقة الجديدة والمتجددة، وزيادة مساحة الرقعة الزراعية في مواجهة التحديات المرتبطة بنقص المحاصيل الزراعية.. فالعالم بأكمله اليوم يحتاج لوقفة من أجل اقتصاد أخضر قائم على تحسين البيئة وتطويعها لصالح الإنسان.
وفي أكتوبر الماضي، أعلن صندوق الأمم المتحدة الأخضر لمكافحة تغير المناخ، عن تعهدات بقيمة 9.3 مليار دولار من 25 دولة لمساعدة الدول المعرضة للخطر على التكيف مع تغير المناخ، بحسب منسق الصندوق محمود محيي الدين.
ولكي يتجاوز مبلغ 10 مليارات دولار التي جمعها في جولته الأخيرة التي استمرت ثلاث سنوات، يسعى الصندوق للحصول على مساهمات لتمويل المشاريع في المناطق المعرضة لتبعات تغير المناخ بين عامي 2024 و2027، وقد زاد نحو 75 بالمئة من المساهمين تعهداتهم مقارنة بجولة تجديد الموارد الأخيرة.
معدلات التضخم
من جانبه، يشير أستاذ الاقتصاد مستشار البنك الدولي، محمود عنبر، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن مدى تأثير التغير المناخي على ارتفاع معدلات التضخم يتوقف على كيفية تعامل العالم نفسه مع الأزمة، مشيراً إلى أنه وفقا لآخر مؤتمر للأطراف (كوب 27) الذي انعقد في مدينة شرم الشيخ المصرية، كان الاتفاق على أن الدول المتقدمة جددت التزامها بتحمل مسؤوليتها تجاه الأزمة لأنها مسؤولة عن أكثر من 80 بالمئة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، التي تؤدي إلى هذه الظواهر، وذلك من خلال تمويل عملية التنمية المستدامة أو الاقتصاد الأخضر في الدول النامية والتي تقع غالبيتها في الدول الأفريقية.
وبيّن أن هذا يضع العالم أمام سيناريوهين:
- السيناريو الأول: أن تلتزم الدول المتقدمة بالأمر وتبدأ في تمويل التنمية المستدامة من خلال مصادر نظيفة للطاقة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرها، وهذا ستكون آثاره إيجابية على العالم كله، خاصة فيما يتعلق بالمعروض من الطاقة؛ لأن حالياً المعروض من مصادر الطاقة التقليدية الأحفورية هو معروض ضعيف، وبالتالي هذا يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة؛ ما سيترتب عليه أيضا حدوث تضخم وارتفاع في أسعار السلع والخدمات سواء كانت مرتبطة بالطاقة بشكل أساسي أو بشكل غير أساسي.
- السيناريو الثاني: أن تلتزم الدول بتمويل التنمية المستدامة وتعتمد على مصادر الطاقة التقليدية خاصة في ظل ظروف اقتصادية هي الأصعب والأخطر .
ويشدد على أن الأمر يسلتزم إصدار قرار تحت مظلة دولية مثل الأمم المتحدة لتبدأ في فرض الأمر فرضًا على هذه الدول.
فيما يشكك الخبير الاقتصادي، في أن يكون هذا الملف على رأس أولويات المنظمات الدولية في ظل الزخم السياسي الذي يعيشه العالم الآن وانقسامه إلى معسكرين؛ روسيا والصين في اتجاه، والولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية في اتجاه، وهذا تكلفته على الاقتصاد باهظة الثمن ليس فقط على اقتصاديات الدول النامية بل سيؤثر على اقتصاديات العالم بشكل عام فالكوارث الطبيعية لن تفرق بين الدول النامية والمتقدمة.
ويعرج إلى ما يعانيه العالم كله من أزمة، موضحاً أنه كمؤشر من هذه المؤشرات فالعالم ينتج ثلث ديونه، حيث إن الديون على مستوى العالم 3 أضعاف الإنتاج، ومن ثم فاستمرار العالم بهذا الشكل سيؤدي إلى حالة “اللايقين” لا في استثمار ولا تجارة دولية، وهذا ما يؤدي إلى تفاقم التضخم، ونقص المعروض من السلع وارتفاع في تكلفة الإنتاج.
ويحذر من أن سبباً واحداً من هذه الأسباب كفيل أن يصنع موجة تضخمية كبيرة، فكون أن يحدث الأمرين هذا يعني بالتأكيد وجود معدلات تضخم عالية خاصة وخاصة أننا نتحدث عن واحد من أهم مدخلات الإنتاج وهو الطاقة، والتي بها نقص كذلك.
تكلفة يتحملها الجميع
“هناك علاقة بين التغير المناخي والتضخم.. وتكلفة التلوث -كما نقول دائما- يتحملها الجميع، والجميع هنا تشمل المواطنين كافة باختلاف دخولهم، كما تشمل كل الدول سواء متقدمة أو نامية”.. هذا ما يؤكد الخبير الاقتصادي، علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”.
ويشير إلى أن الدول المتقدمة والصناعية دائماً حديثها عن التحرك ضد قضية تغير المناخ؛ لأنها أيضا متأثرة بنسب أقل من البلدان النامية بالرغم من كونها (الدول المتقدمة) السبب الرئيس في هذه التغيرات المناخية، وبالأخص الولايات المتحدة وأوروبا (..).
ويلفت إلى أن تغير المناخ يؤثر بشكل مباشر على القطاع الزراعي، ومن هنا يتأثر حجم الحاصلات الزراعية والإنتاج الزراعي بالسلب؛ نتيجة تغير المناخ؛ ما ينتج عنه لاحقا ارتفاعات في الأسعار ويؤثر على مستويات الجوع والأمن الغذائي، إلى جانب تحديات أخرى موازية تضاف إلى هذه العوامل مثل التطورات الجيوسياسة، والحرب في أوكرانيا مثالاً، والتي أدت تبعاتها إلى ارتفاع تكلفة الحصول على الحبوب، جنباً إلى جنب ومشاكل حظر الاستيراد في أكثر من دولة كالأرز من الهند والحبوب من روسيا وأوكرانيا.
ويضيف أن كل هذه الأمور تشكل ضغوطاً وتحديات تفاقم الأزمة، وخاصة مع ارتفاعات حجم التضخم عالمياً بشكل عام وليس فقط على مستوى أسعار الغذاء، وبالتالي مع تغير المناخ واستمرار هذه القضية وتفاقمها خلال الفترة المقبلة فستتفاقم معدلات التضخم، وبالأخص على مستوى السلع الأساسية والغذائية لكل المواطنين على مستوى العالم.
ويوضح الإدريسي، في تصريحاته لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن هناك جانباً آخر مرتبطا بحجم الطلب على الطاقة؛ فمع تغير المناخ والارتفاعات الكبيرة في درجات الحرارة أو الانخفاض الشديد جداً فيها ودرجات البرودة الموجودة لأول مرة في كثير من الدول؛ يتطلب هذا المزيد من الطلب على الطاقة سواء التقليدية أو البحث عن مصادر طاقة جديدة ومتجددة.