ويشير صندوق النقد الدولي إلى أن استمرار هذا الوضع يتطلب إصلاحات هيكلية عاجلة لتعزيز القطاعات غير النفطية وتحسين كفاءة الإنفاق العام، بما يساهم في تنويع مصادر الإيرادات وتحقيق استدامة مالية.
في هذا الإطار، أعلن العراق عن خطة طموحة لاستثمار 184 مليار دولار في قطاعات استراتيجية مثل النفط والصناعات التحويلية، بهدف تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 4 بالمئة ، إلا أن هذه الخطط تواجه تحديات سياسية كبيرة نتيجة تأخر تشكيل الحكومة الجديدة بسبب فشل الأحزاب في الاتفاق على تسمية رئيس وزراء.
ويحذر الخبراء من أن التأخير السياسي، إلى جانب الضغوط المالية المتزايدة، يفاقم المخاطر الاقتصادية، ويهدد قدرة الحكومة على تنفيذ المشاريع التنموية. وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن العراق بحاجة ماسة إلى إصلاحات مالية وسياسية متكاملة لضمان الاستقرار الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام.
هشاشة الاقتصاد أمام تقلبات النفط
أوضح أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية، د. عبد الرحمن المشهداني، خلال حديثه لبرنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، أن انخفاض أسعار النفط كشف بشكل واضح هشاشة الاقتصاد العراقي، وبيّن مدى ضعف الاستجابة الاقتصادية للمتغيرات الدولية. وأكد المشهداني أن الاعتماد المفرط على النفط ليس أمرًا جديدًا، بل يعود إلى أكثر من ستة عقود، منذ عام 1958، ليصبح النفط العمود الفقري للموازنة العامة والناتج المحلي الإجمالي.
وأشار إلى أن تقرير صندوق النقد الدولي الأخير ليس جديدًا، إذ تناول مواضيع مشابهة قبل سنتين، محذرًا من تزايد الاعتماد على الدين العام، داخليًا وخارجيًا، حيث من المتوقع أن يصل إجمالي الدين المتراكم على الحكومة العراقية خلال السنوات الأربع القادمة إلى نحو 260–270 مليار دولار.
العجز المالي وتزايد الإنفاق التشغيلي
أكد المشهداني أن الإصلاحات الاقتصادية المتبعة حتى الآن تعتبر ترقيعية، ولم يتم تنشيط القطاعات الاقتصادية الحقيقية مثل الزراعة والصناعة، مع تزامن أزمة الجفاف مع انخفاض أسعار النفط، ما زاد الوضع تعقيدًا.
وأشار إلى أن العجز المالي أصبح حقيقيًا خلال السنتين الأخيرتين، مع استمرار زيادة الإنفاق التشغيلي على حساب الإنفاق الاستثماري، ما سيدفع الحكومة إلى المزيد من الاقتراض الداخلي والخارجي، مما يزيد من تعقيد مهمة الحكومة القادمة حتى لو كانت مهنية.
التحديات السياسية وتأثيرها على الإصلاحات
أوضح المشهداني أن التوافق السياسي يظل العامل الحاسم في تشكيل الحكومة، وأن الترشيحات على أساس حزبي وليس مهنيًا قد تعيق أي تحسن اقتصادي. وأكد أن الاستمرار في برامج الإصلاح يحتاج إلى التزام الحكومة القادمة باستكمال ما بدأته الحكومة الحالية، وعدم إعادة بدئية كل حكومة جديدة.
وأشار إلى ضرورة إصلاح القطاع العام، موضحًا أن التوظيف المفتوح زاد عدد الموظفين إلى أكثر من 4.25 مليون موظف، بينما الحاجة الفعلية لا تتجاوز مليوني موظف، ما يجعل الترهل الإداري عبئًا إضافيًا على الاقتصاد.
القطاعات الاقتصادية الحقيقية وتنشيط الاستثمار
شدّد المشهداني على أهمية تنشيط الصناعة والزراعة ودعم القطاع المصرفي الذي لا يزال ضعيفًا وغير قادر على مواكبة الإصلاحات، مشيرًا إلى ضرورة تفعيل التشريعات الاقتصادية لتسهيل التحول نحو اقتصاد السوق.
وأبرز أن الخلافات بين الحكومة العراقية والإقليم بشأن قانون النفط والغاز منذ عام 2007 تعيق استقرار البيئة الاستثمارية، مشددًا على أن تشريعات جديدة وبيئة قانونية واضحة ستعزز ثقة المستثمرين، وتزيد من فرص دخول الاستثمارات الأجنبية.
الإصلاح المالي وتوقعات سعر الصرف
أشار المشهداني إلى أن العراق يحتاج إلى أكثر من 170 مليار دولار لتمويل إصلاحات حقيقية للقطاعات الاقتصادية المختلفة، بهدف تقليل الاعتماد على النفط وجعل القطاعات الإنتاجية مساهمة أكبر في الناتج المحلي الإجمالي.
وعن سعر الصرف، توقع المشهداني حدوث تعديل يصل إلى نحو 40 بالمئة ، معتبراً أن التغيير سيكون على مستوى التعويم دون تحرير كامل للعملة، وهو ما يعد خطوة أساسية نحو تحقيق استقرار مالي نسبي وتعزيز قدرة الاقتصاد على الصمود أمام الصدمات الخارجية.
خلص أستاذ الاقتصاد إلى أن المهمة أمام الحكومة القادمة جسيمة، وأن نجاح أي إصلاح اقتصادي يتطلب التزامًا مهنيًا، استكمالًا للإصلاحات السابقة، وتنفيذ برامج طويلة المدى تهدف إلى هيكلة القطاع العام، تعزيز القطاعات الحقيقية، وتفعيل التشريعات الاقتصادية لدعم بيئة استثمارية مستقرة.
يقف الاقتصاد العراقي اليوم أمام خيار مصيري: الالتزام بإصلاحات عاجلة وجذرية لتنويع الإيرادات، تعزيز القطاعات الإنتاجية، وهيكلة القطاع العام، أو الاستمرار في الهشاشة المالية التي تهدد الاستقرار والنمو. القرار السياسي والمهنية في التنفيذ سيكونان العامل الحاسم في تحديد مستقبل الاقتصاد والأجيال القادمة.


