في هذا السياق، يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أهم الأدوات القادرة على إعادة رسم ملامح إدارة المخاطر.
ومع محدودية الحلول التقليدية -من دفن خطوط الكهرباء بتكلفة هائلة، إلى الاعتماد على دوريات بشرية لمراقبة امتدادات شاسعة من الغابات- تتحرك شركات التكنولوجيا لسدّ فجوة واضحة؛ إذ تتسابق شركات ناشئة ومتقدمة في تطوير خوارزميات قادرة على تحليل بيانات البيئة والطقس والبنية التحتية لتقديم حلول وقائية واستباقية، تمنح صُنّاع القرار رؤية دقيقة في اللحظة المناسبة.
يحول هذا التوجه الذكاء الاصطناعي إلى امتدادٍ للعين البشرية، لكنه يمتاز بالتحليل الفوري والقدرة على استيعاب ملايين النقاط من البيانات في الوقت نفسه.
وعلى اعتبار أن الخطر لا يبدأ عند اشتعال النيران فقط، بل قبل ذلك بسنوات من التغيّرات التراكمية داخل الغابات، يتزايد دور الذكاء الاصطناعي بوصفه شريكاً أساسياً في الحد من الحرائق. إذ تجمع شركات المرافق وشركات التكنولوجيا بين الصور الفضائية، والقياسات الميدانية، وخوارزميات التعلّم العميق ل العالم نيوزالمناطق الهشة، وتحديد الأشجار المهددة بالسقوط، والتنبؤ بمسار ألسنة اللهب في حال اندلاعها. وهكذا ينتقل العالم تدريجيًا من منطق الاستجابة إلى منطق الوقاية الاستباقية، وهو ما يفتح بابًا واسعًا أمام ثورة جديدة في إدارة حرائق الغابات.
فرص أمام شركات التكنولوجيا
في هذا السياق، يشير تقرير لـ “بلومبرغ” إلى أنه في سباق البحث عن استراتيجيات رخيصة وسريعة للحد من حرائق الغابات القاتلة، بدأت شركات المرافق في الولايات المتحدة وأوروبا التعاقد مع عدد من الشركات الناشئة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي لرسم خرائط مخاطر الحرائق على امتداد آلاف الأميال من خطوط الكهرباء، وتحديد الأشجار الواجب إزالتها وأعمدة الكهرباء التي تحتاج إلى استبدال.
يُعد دفن خطوط الكهرباء تحت الأرض الطريقة الأكثر وضوحاً لمنع معدات الطاقة من التسبب في اشتعال الحرائق. لكن مع وصول التكلفة إلى أكثر من 3 ملايين دولار للميل الواحد، تلجأ شركات الكهرباء الخاصة إلى دفن بضعة مئات فقط من الأميال سنوياً.
وقد فتح ذلك الباب أمام فرصة تجارية كبيرة لعدد من شركات التكنولوجيا التي تستخدم خوارزميات التعلم الآلي لتقديم توصيات مخصصة لإصلاحات مستهدفة ومنخفضة التكلفة نسبياً ، بما في ذلك الإصلاحات التي يمكن تمويلها من ميزانيات الصيانة الحالية.
ويستعرض التقرير تجربة شركة Overstory، ومقرها ماساتشوستس، كمثال؛ إذ تقوم الشركة بتحليل صور أقمار صناعية عالية الدقة ل العالم نيوزالأشجار الأكثر عرضة للسقوط أو لانهيار فروعها على خطوط توزيع الكهرباء، أي تلك التي تحتاج إلى تشذيب عاجل.
تقول الرئيسة التنفيذية، فيونا سبرويل، إن الشركة بدأت تطوير أدوات لمكافحة إزالة الغابات، لكنها غيّرت مسارها بعد إدراك واضح: “كان بإمكاننا إحداث تأثير كبير من منظور المناخ عبر المساهمة في منع حرائق الغابات.” وقد أغلقت الشركة مؤخراً جولة تمويلية من الفئة B تجاوزت 43 مليون دولار.
ولتدريب خوارزمياتها، اعتمدت Overstory على فريق كبير من خبراء الأشجار (arborists) الذين قدموا قياسات ميدانية وملاحظات حول الأشجار المريضة أو الآيلة للموت. وتُدمج بيانات الشركة وتوقعاتها الخاصة بالمخاطر داخل منصة ويب مخصّصة تتضمن توصيات واضحة لما يجب تشذيبه وتوقيت ذلك بصورة دورية.
كما يستطيع نموذج gridFIRM الذي تطوره شركة Rhizome تحليل مجموعة واسعة من البيانات الخاصة بكل شبكة كهرباء، بما في ذلك أنماط الطقس المحلية وسجلات الصيانة، إضافةً إلى معلومات عن العقارات والمجتمعات السكنية القريبة التي قد تتضرر في حال اندلاع حريق.
ورغم أن هذه التقنيات يمكن أن تقلل بشكل كبير من مخاطر الحرائق، إلا أنها لا تستطيع القضاء عليها تماماً.
تحول جذري
الخبير التكنولوجي، محمد سعيد، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن الذكاء الاصطناعي أحدث تحولًا جذريًا في طريقة التعامل مع حرائق الغابات، إذ نقلنا من مرحلة رد الفعل التقليدي والاعتماد على الحظ إلى مرحلة التنبؤ والوقاية الذكية عبر تحليل البيانات الضخمة.
ويوضح أن هذا التحول لا يقتصر على إطفاء الحرائق فحسب، بل يمتد ليشمل أبعادًا اقتصادية وبيئية واسعة، لما له من تأثير مباشر في تقليل الخسائر وحماية الموارد.
كما يشير إلى أن الخوارزميات الحديثة تمتلك قدرة هائلة على تحليل بيانات بيئية ضخمة تشمل درجات الحرارة، وسرعة الرياح، ونسب الرطوبة، والسجل التاريخي للحرائق، لتوليد نماذج تنبؤية دقيقة تحدد المناطق الأكثر عرضة للاشتعال، مما يتيح للجهات المختصة اتخاذ إجراءات وقائية استباقية مثل ترطيب التربة أو إدارة الغطاء النباتي الجاف أو فصل التيار الكهربائي عن خطوط الضغط العالي.
ويضيف أن تقنيات الرؤية الحاسوبية باتت تمثل خط الدفاع الأول في مرحلة الرصد، إذ تُحلل صور الأقمار الصناعية وكاميرات المراقبة الحرارية لحظيًا، وتفرّق بدقة بين الدخان الحقيقي والسحب أو الضباب، ما يقلل من الإنذارات الكاذبة ويزيد من كفاءة الاستجابة.
كما يلفت إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح خلال الحرائق قائدًا ميدانيًا ذكيًا، يعتمد على خوارزميات المحاكاة وتقنية التوأمة الرقمية لتوقع مسار النيران وتوجيه فرق الإطفاء بفاعلية، مع دعم الطائرات المسيّرة المزودة بأنظمة تصوير حراري لاختراق الدخان وكشف بؤر اللهب الخفية.
ويختتم سعيدحديثه بالإشارة إلى أن دور الذكاء الاصطناعي لا يتوقف بانتهاء الحريق، بل يمتد إلى تقييم الأضرار وإعادة الإعمار من خلال تحليل الصور الجوية وتقدير التعويضات والتخطيط البيئي الذكي، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي أصبح شريكًا اقتصاديًا واستراتيجيًا في مواجهة تحديات المناخ وحماية الأصول بكفاءة علمية ومدروسة.
مراحل الحريق
يقول الخبير في شؤون المناخ، حمدي حشاد، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم أداةً أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في التعامل مع حرائق الغابات بجميع مراحلها.
- قبل الحريق يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات الطقس والرطوبة والغطاء النباتي وسجلات الحرائق السابقة لرسم خريطة يومية لمناطق الخطورة، مما يُساعد على توجيه المراقبة والموارد إلى الأماكن الأكثر هشاشة بدل الاكتفاء بتحذيرات عامة.
- أثناء الحريق يمكن للذكاء الاصطناعي توقّع اتجاه انتشار النار اعتمادًا على الرياح والتضاريس ونوع الغطاء النباتي، وهو ما يُسهّل اتخاذ قرارات أكثر دقة تتعلق بعمليات الإخلاء وحماية البنية التحتية وتوزيع الشاحنات والطائرات والفرق الميدانية، مع الاستفادة من طائراتٍ بدون طيار تحلّق فوق موقع الحريق وتكشف الجيوب الساخنة في الوقت الحقيقي.
- بعد إخماد الحريق، يمكن الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لمقارنة صور ما قبل الحريق وما بعده لتقدير حجم الخسائر وتحديد المناطق التي تحتاج إلى إعادة تشجير عاجلة، فضلًا عن تحليل أنماط تكرار الحرائق وأسبابها البشرية لتصميم برامج توعية ورقابة أكثر فاعلية.
ويؤكد أن الذكاء الاصطناعي تحوّل إلى شريكٍ حقيقي يربط بين العلم الميداني والقرار العملي، ويمنحنا فرصة أفضل للحدّ من مخاطر الحرائق قبل وقوعها وأثناءها وبعدها.
تجربة عملية
وتشير منصة Noticias Ambientales البيئية المتخصصة إلى تجربة عملية لاستخدام الـ AI في مواجهة حرائق الغابات.
- أسس شاب أرجنتيني يدعى فرانكو رودريغيز فياو Satellites on Fire ، وهو نظام لمواجهة حرائق الغابات يدمج صور الأقمار الصناعية وبيانات المناخ وبيانات الارتفاع والغطاء الأرضي التي تتم معالجتها باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي الخاصة.
- تكمن فائدة هذا النظام في أنه يكتشف الحرائق في المتوسط قبل 35 دقيقة من نظام FIRMS التابع لوكالة ناسا ، ويسمح بمحاكاة انتشارها لتوجيه استراتيجيات الإطفاء ، وفقاً لمبتكره.
- أسس فرانكو رودريغيز فياو الشركة في عام 2020 ، بعد أن شهد عندما كان في السادسة عشرة من عمره كيف فقد معارف العائلة منازلهم في حريق في الأرجنتين .
- يقول: كانت تلك اللحظة نقطة تحول. أدركتُ أن التكنولوجيا يجب أن تُسهم في استباق هذه المآسي والحد من عواقبها.. ومن هناك، قاد فريقًا من 17 خبيرًا، من بينهم متعاونون سابقون من ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية ومستشارون في مجال التعلم الآلي بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة).
تقنيات متقدمة
خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي في جامعة سان هوزيه الحكومية بولاية كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه مع تزايد حرائق الغابات حول العالم بسبب تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة، أصبح من الضروري البحث عن أدوات وتقنيات متقدمة للحد من هذه الكوارث البيئية.
ويضيف: يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في هذا المجال، من خلال تقديم حلول متقدمة تشمل التنبؤ، المراقبة، والاستجابة السريعة.
وفيما يلي أبرز الطرق التي يستخدم فيها الذكاء الاصطناعي للحد من مخاطر حرائق الغابات، بحسب بانافع:
أولاً: التنبؤ المبكر بمناطق الخطر
- يعتمد الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات هائلة من البيانات تشمل درجات الحرارة، معدلات الرطوبة، حركة الرياح، نوعية الغطاء النباتي، وسجلات الحرائق السابقة.
- هذه التحليلات تساعد على تحديد المناطق الأكثر عرضة لاندلاع حرائق، مما يسمح للجهات المختصة باتخاذ إجراءات وقائية قبل حدوث الكارثة.
ثانياً: الاكتشاف السريع لبوادر الحريق
- يمكن للذكاء الاصطناعي استخدام صور الأقمار الصناعية، بيانات الطائرات بدون طيار، وشبكات من الحساسات الأرضية ل العالم نيوزإشارات مبكرة مثل ارتفاع درجة الحرارة أو تصاعد دخان.
- هذا النوع من المراقبة يعمل على مدار الساعة، ويوفر معلومات دقيقة في الوقت الحقيقي، ما يسمح بالتدخل السريع قبل أن يتسع نطاق الحريق.
ثالثاً: دعم الاستجابة واتخاذ القرار
- عند اندلاع حريق، تُستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي لمحاكاة كيفية انتشاره بناءً على العوامل المناخية والتضاريس.
- تساعد هذه النماذج في تحديد المسارات الآمنة لفرق الإطفاء، وأولويات الإخلاء، وتوزيع الموارد البشرية واللوجستية بشكل أكثر فاعلية.
رابعاً: التخطيط الحضري وإدارة الأراضي
- يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في تصميم خرائط ذكية لتخطيط استخدام الأراضي، وتحديد المناطق ذات الخطورة العالية، وتوجيه السياسات البيئية والبلدية نحو استراتيجيات تخفيض الكثافة السكانية في المناطق الحرجة، أو بناء حواجز طبيعية تقلل من انتقال الحرائق إلى المناطق المأهولة.
خامساً: تعزيز إجراءات التأمين البيئي
- بعض شركات التأمين تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي لتقييم درجة المخاطر على العقارات الواقعة في مناطق معرضة للحرائق.
- هذه التقييمات تؤثر على تكلفة التأمين وتشجع المالكين على اتخاذ خطوات وقائية مثل إزالة النباتات القابلة للاشتعال أو استخدام مواد بناء مقاومة للحريق.
ويشدد على أنه في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، باتت حرائق الغابات أكثر تكراراً وحدّة. التقنيات التقليدية في ال العالم نيوزوالاستجابة لم تعد كافية، وهو ما يجعل من الذكاء الاصطناعي أداة استراتيجية قادرة على تقليل الخسائر البيئية والاقتصادية والبشرية.
وي العالم نيوزبانافع في هذا السياق مجموعة من التوصيات المستقبلية، على النحو التالي:
- الاستثمار في أنظمة مراقبة ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تشمل الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار.
- إدماج الذكاء الاصطناعي ضمن خطط الدفاع المدني والغابات كعنصر أساسي وليس اختياري.
- تطوير أنظمة إنذار مبكر تعمل وفق معايير بيانات بيئية دقيقة.
- التعاون بين الحكومات والمؤسسات البحثية والتقنية لإنتاج حلول محلية فعالة.
- رفع الوعي العام حول كيفية الوقاية من إشعال الحرائق، وربط السلوك البشري بنتائج تحليل البيانات الذكية.
ويختتم حديثه بالتأكيد على أن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في مواجهة حرائق الغابات لا تقتصر على التقنية فحسب، بل تمثل تحوّلاً نحو الوقاية الاستباقية والإنقاذ الذكي. ومع تطور هذه الأدوات، يمكن للعالم تقليل حجم الكوارث الطبيعية وإنقاذ الأرواح وحماية التنوع البيئي.


