ومع اشتداد الضغط على البنية التحتية الرقمية، يتحول التفكير تدريجياً إلى مساحات غير تقليدية قادرة على استيعاب طفرة الطلب الحالية والمستقبلية.
هذا التحول في العقلية التقنية يرتكز على قناعة متنامية بأن البيئة الأرضية، بما تحمله من قيود وازدحام وموارد محدودة، قد لا تكون كافية لاستيعاب الجيل الجديد من الحوسبة فائقة القدرة. ومن هنا، بدأ مفهوم “الفضاء” يخرج من نطاق الأبحاث الرائدة إلى دائرة الخطط التشغيلية التي تدرسها الشركات العملاقة بجدية متزايدة.
ومع تزايد الحديث عن بنية رقمية تُبنى خارج الغلاف الجوي، تتجه الأنظار إلى مشاريع تَعِد بفتح فصل جديد في صناعة البيانات، مستفيدة من الطاقة المستقرة والبيئة الباردة وقدرات التوسع غير المحدودة في المدار. وبينما تتشكل ملامح هذا السباق، تتسع الأسئلة حول مدى واقعية هذه الرهانات ودورها في حل التحديات التقنية التي تتصاعد بوتيرة غير مسبوقة.
بحسب تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” فإن “قيود الطاقة” في سباق الذكاء الاصطناعي تدفع شركات التكنولوجيا إلى التفكير خارج حدود هذا العالم.
ويوضح التقرير أن أقطاب التكنولوجيا، ممثلين في كل من الرئيس التنفيذي لشركة تسلا وسبيس إكس إيلون ماسك، ومؤسس أمازون جيف بيزوس والرئيس التنفيذي لغوغل ساندر بيتشاي “تحدثوا جميعاً عن مراكز بيانات تعمل بالذكاء الاصطناعي على القمر وفي المدار، يمكن أن توفر طاقة شمسية مستقرة مع قدر أقل من القيود التنظيمية”.
بيئة واعدة للابتكار
يقول خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي من جامعة سان هوزه الحكومية في كاليفورنيا، د. أحمد بانافع، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- الفضاء اليوم لم يعد مجرد مجال للبحث العلمي، بل أصبح بيئة واعدة للابتكار.
- هناك عوامل طبيعية لا يمكن تجاهلها، أبرزها الطاقة الشمسية النقية والمتواصلة التي يمكن استغلالها بكفاءة أعلى بكثير من الأرض بفضل غياب الغلاف الجوي، إضافة إلى البيئة الفضائية الباردة التي تقلل الحاجة لأنظمة التبريد كثيفة الاستهلاك للطاقة والمياه.
- “التخلص من قيود البنية التحتية الأرضية، وارتفاع أسعار الأراضي، واشتراطات البيئة، يجعل الفضاء خيارًا مرنًا وعمليًا لتوسعة قدرات معالجة البيانات.
ويضيف: “على سبيل المثال، نشهد اليوم خطوات جدية في هذا الاتجاه. فشركة Starcloud، المدعومة بشكل غير مباشر من Nvidia، تعمل على تطوير مراكز بيانات تدور في المدار وتعتمد كليًا على الطاقة الشمسية، مع وعود بخفض كبير في استهلاك الكهرباء”.
ويتابع: “حتى Google دخلت على الخط عبر مشروع Project Suncatcher، الذي يدرس بناء شبكة أقمار صناعية مخصّصة للحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، مدعومة بتقنيات اتصالات فائق السرعة تربط بين الفضاء والأرض.”
- ورغم الإمكانات الهائلة، يشير د. بانافع إلى أن الطريق ما يزال مليئًا بالتحديات:
- تكلفة الإطلاق إلى الفضاء ما تزال مرتفعة.
- عمليات الصيانة والتعديل شبه مستحيلة بعد الإطلاق.
- محدودية زمن الاستجابة (Latency) يشكل عائقًا لبعض التطبيقات الحساسة.
- قضايا السيادة الرقمية و”من يملك الفضاء الرقمي” ما تزال تنتظر إطارًا قانونيًا واضحًا.
ويختتم حديثه قائلاً:
- “من الواضح أننا نقف على أعتاب مرحلة جديدة في هندسة مراكز البيانات. لن تحل المنشآت الفضائية مكان الأرضية بالكامل لكنها ستكون مكملا مهما خصوصا للمهام التي تتطلب قدرات معالجه هائله او استدامه بيئيه اعلى”.
- ” وبينما تتسارع تقنيات الاطلاق الفضائي وتنخفض تكاليفها من المتوقع خلال هذا العقد أن نرى اول مراكز بيانات تشغيليه في المدار تمهد لما يمكن أن نسميه السحابى الفضائيى والتي قد تصبح العمود الفقري للجيل القادم من تطبيقات الذكاء الاصطناعي”.
ويعقتد بأن ” الذكاء الاصطناعي اليومي لا يغير شكل التكنولوجيا فقط بل يغير شكل البنيه التحتيه التي تعتمد عليها هذه التكنولوجيا ويدفع الابتكار نحو افاق لم تكن مطروحه قبل سنوات قليله، السباق نحو مراكز البيانات خارج الكوكب لم يعد خيالا علميا بل واقعا في طور التشكل”.
نمو سريع
وبحسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي، فإن:
- الذكاء الاصطناعي يشهد نمواً سريعاً، وكذلك الطلب على الطاقة اللازم لتطويره، والذي قد يرتفع بنسبة 50 بالمئة سنوياً حتى عام 2030.
- توصلت شركة ستاركلاود إلى حلٍّ فضائي، كما يوضح الرئيس التنفيذي فيليب جونستون: بناء مراكز بيانات في المدار، حيث ستتاح لهم إمكانية الوصول غير المحدود إلى طاقة الشمس وقدرات التبريد الفضائية.
- مع تزايد الطلب على طاقة الذكاء الاصطناعي، تعمل شركة ناشئة رائدة على نقل البنية التحتية للبيانات من كوكب الأرض. تعمل شركة ستاركلاود على بناء مراكز بيانات فضائية للاستفادة من الطاقة الشمسية الهائلة والمتواصلة والمتاحة في المدار.
وتدعم البنية التحتية الفضائية تطوير الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، فبخلاف الأرض، حيث تواجه مراكز البيانات قيوداً في المساحة والطاقة، يمكن للمراكز المدارية أن تتوسع حتى 50 ضعفاً. تتحد هذه الوحدات، التي يبلغ حجم كل منها خمس حاويات شحن، لتشكل هياكل ضخمة تعمل بالطاقة الشمسية، أبعادها 4 كيلومترات في 4 كيلومترات، مع مشعاعات تمتد بطول كيلومتر واحد، وفق المنتدى.
علاوة ذلك، فإن مراكز البيانات الفضائية تقلل من التأثير البيئي، فمع أن الإطلاق الأولي له تكلفة بيئية، إلا أن مراكز البيانات الفضائية هذه، مع مرور الوقت، تُصدر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أقل بعشر مرات من المراكز الأرضية التي تعمل بالوقود الأحفوري. كما أنها تُسهم في الحفاظ على الأراضي من خلال تجنب الحاجة إلى تغطية الغابات والحقول بألواح الطاقة الشمسية.
بالإضافة إلى دعم الذكاء الاصطناعي، يوفر الفراغ والبرودة في الفضاء ظروفًا مثالية للحوسبة الكمومية – مما يلغي الحاجة إلى التبريد الذي يستهلك الكثير من الطاقة على الأرض.
سباق عالمي
أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، يقول:
- ما نشهده اليوم ليس مجرد نقاش مستقبلي، بل بوادر سباق عالمي حقيقي تقوده شركات التكنولوجيا العملاقة، مدفوعًا بعاملين أساسيين: أزمة الطاقة وتضخم احتياجات الذكاء الاصطناعي.
- مراكز البيانات الأرضية تلتهم ما يقارب 10 بالمئة من الكهرباء المنتجة عالميًا بحلول 2030 ووفق التقديرات، فإن النماذج اللغوية الضخمة والأنظمة التوليدية ستجعل هذا الرقم مرشحًا للانفجار.
ويشدد على أن “التحدي الحقيقي أمام شركات مثل مايكروسوفت، غوغل، وأمازون أصبح ليس تطوير الخوارزميات، بل كيفية تأمين الطاقة لتشغيلها”، موضحاً أن الطاقة الرخيصة والنظيفة أصبحت نادرة، والأنظمة الحكومية بدأت تفرض حدودًا على استهلاك الطاقة والمياه لمراكز البيانات. من هنا ظهر التوجه نحو الطاقة النووية الصغيرة، ومحطات الهيدروجين، ثم الفضاء
لماذا الفضاء؟
ووفق العمري، هناك ثلاثة أسباب تجعل فكرة مراكز بيانات خارج الغلاف الجوي منطقية اقتصاديًا وتكنولوجيًا:
- أولًا: الطاقة الشمسية غير المحدودة
- ثانيًا: غياب تكاليف التبريد
- ثالثًا: سباق عسكري اقتصادي صامت (مع الصين والولايات المتحدة بشكل خاص)
لكنه في الوقت نفسه يحدد” تحديات ضخمة” قد تؤجل هذا المستقبل، أهمها:
- التكلفة الهائلة لإطلاق مئات الأطنان من المعدات
- مشكلة الصيانة والإصلاح في المدار
- خطر الحطام الفضائي Space Debris
- تساؤلات حول أمان البيانات وحوكمة الفضاء


