وتكشف المؤشرات الرقمية عن حجم التحول المتسارع؛ إذ يوجد على الطرقات حول العالم اليوم نحو 34 مليون مركبة ذاتية القيادة، في حين يُتوقع أن يتضاعف هذا الرقم أربع مرات ليصل إلى 126 مليون مركبة خلال خمس سنوات فقط. كما ترجّح التقديرات أن يتم بيع 58 مليون مركبة جديدة تعتمد على القيادة الذاتية بحلول عام 2030.
أما سوق هذه التكنولوجيا فتشهد قفزة أكبر، حيث يبلغ حجمه حالياً 191 مليار دولار، مع توقعات بأن يقفز إلى 1.9 تريليون دولار بحلول 2032. وفي التفاصيل، تشير التقديرات إلى أن سوق سيارات الركاب ذاتية القيادة -بما يشمل الحافلات، وسيارات الأجرة الروبوتية، والتاكسيات الطائرة – قد يصل إلى 300 مليار دولار بحلول عام 2035.
ويبرز في هذا السياق دور دول الخليج، التي يتوقع أن تتجاوز حصتها من سوق سيارات الركاب ذاتية القيادة 20 مليار دولار، في ظل التوجهات نحو التحول الرقمي وتبني حلول النقل المستقبلية.
وبين من يرى أن هذه المركبات ستعيد تشكيل المدن وتوفر قيادة أكثر أماناً وتخفض الوقت والتكاليف، يظل السؤال الأهم مطروحاً: هل أنتم مستعدون لدخول عصر القيادة الذاتية؟
إعادة تشكيل المدن
الخبير الاقتصادي، ياسين أحمد، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- السيارات ذاتية القيادة تحوّلت إلى أحد أبرز التحولات التي تعيد رسم ملامح الاقتصاد العالمي وأنماط الحياة الحديثة.
- وتيرة التطور في هذا القطاع تسير بسرعة لافتة تنذر بتغييرات جذرية خلال السنوات القليلة المقبلة.
- أبرز مزايا السيارات ذاتية القيادة تتجسد في قدرتها على تعزيز الأمان على الطرق عبر تقليل الحوادث الناتجة عن الأخطاء البشرية كالسرعة والتشتت، مستندة إلى خوارزميات دقيقة وقدرة أعلى على تجنب الاصطدامات، وهو ما يرفع مستويات السلامة العامة.
- انتشار هذه المركبات سيُسهم في إعادة تشكيل المدن والبنية التحتية؛ إذ ستتراجع الحاجة إلى مساحات مواقف السيارات الضخمة، ما يتيح استغلالها في مشروعات تنموية ومساحات خضراء ويُحدث تحوّلًا في تصميم المدن.
ويتابع الخبير الاقتصادي أن هذا التطور ينعكس مباشرة على تحسين جودة حياة بعض الفئات، بما يتيح لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة استقلالية أكبر في التنقل دون الاعتماد على الآخرين، وهو ما يمثل نقلة اجتماعية مهمة. كما تمتد الفوائد إلى الاقتصاد، حيث يمكن للشركات خفض تكاليف التشغيل ورفع كفاءة النقل، رغم ما قد يرافق ذلك من تحديات تتعلق بتقلص بعض الوظائف التقليدية. وينبه بأن هذه التكنولوجيا تمنح الركاب فرصة أفضل لاستغلال الوقت في العمل أو الراحة أثناء التنقل، بما يعزز الإنتاجية ويقلل الضغط اليومي.
ورغم هذا الزخم الإيجابي، يؤكد الخبير الاقتصادي أن الطريق أمام السيارات ذاتية القيادة ما يزال مليئًا بالتحديات على مستويات متعددة، مشيرًا إلى أن أول هذه التحديات هو الجانب التقني، بدءًا من صعوبة تمييز الأجسام في الإضاءة الضعيفة والطقس السيء، مرورًا بضعف أداء المستشعرات في الأمطار والضباب والثلوج، وصولًا إلى تعقيد اتخاذ القرار في المواقف المفاجئة والتعامل مع السلوك غير المتوقع للسائقين البشريين، فضلًا عن التهديدات السيبرانية ومخاطر الاختراق.
ويضيف أن التحديات القانونية تبقى حاضرة بقوة، في ظل غياب تشريعات موحّدة بين الدول وعدم وضوح المسؤولية القانونية عند وقوع الحوادث، إلى جانب مخاوف تتعلق بخصوصية البيانات التي تجمعها هذه المركبات. أما على الصعيد الاجتماعي، فيشير إلى وجود تردد لدى بعض الفئات في الثقة بهذه التكنولوجيا، إضافة إلى إشكاليات أخلاقية حول كيفية برمجة المركبات في اللحظات الحرجة وتأثيرات محتملة على الوظائف التقليدية.
وفي ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، يوضح أن ارتفاع تكلفة تقنيات الاستشعار والذكاء الاصطناعي يشكّل عقبة أمام الانتشار الواسع، إلى جانب الحاجة إلى بنية تحتية متطورة تشمل الطرق الذكية والخرائط الرقمية. كما يلفت إلى تحديات السلامة التي تفرض ضرورة إثبات قدرة هذه الأنظمة على التعامل مع الحالات غير المتوقعة على الطرق، وإثبات أنها بالفعل أكثر أمانًا من السائق البشري قبل اعتمادها على نطاق واسع.
حلم قريب المنال
في هذا السياق، يشير تقرير لـ “ماكينزي” إلى أنه:
- لم يعد عصر المركبات ذاتية القيادة حلمًا بعيد المنال.
- تُقدم أساطيل المركبات ذاتية القيادة المبكرة على الطرق اليوم لمحة عما سيأتي: تنقلات مُرهقة تُحوّل إلى ساعات إنتاجية، وتقاطعات مُدارة بدقة، وطرق أكثر أمانًا للجميع.
- المركبات ذاتية القيادة ستُحدث نقلة نوعية في مدننا، وروتيننا اليومي.
ويقول خبراء ماكينزي إنه بحلول عام 2040، قد تصبح المركبات ذاتية القيادة شائعة مثل أي جهاز منزلي آخر، مما يؤثر على كيفية تنظيم الأسر لأيامها وكيفية تصميم المدن.
وفي سياق متصل، تتحول القيادة الذاتية من أنظمة صارمة تعتمد على القواعد إلى أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تطوراً يمكنها التعلم والاستجابة بتفاصيل دقيقة تشبه الإنسان، مما يخلق تجربة قيادة أكثر ذكاءً واستجابة وأفضل بشكل عام.
ويشير الخبراء إلى أنه يمكن أن يُحدث دمج المركبات ذاتية القيادة تغييرًا جذريًا في المساحات الحضرية، مما يُقلل الحاجة إلى مواقف السيارات ويُخفف الازدحام. كما سيفتح هذا التحول الباب أمام وسائل نقل جديدة، مثل الحافلات المكوكية المشتركة والنقل الجوي.
وغالبًا ما تُغيّر رحلة واحدة موقف الراكب تجاه المركبات ذاتية القيادة من الحذر إلى الحماس. لكن الإقبال الواسع عليها يعتمد على إثبات قدرة هذه المركبات على التفوق على السائقين البشر في جميع الحالات.
فرص وتحديات
يؤكد الخبير في العلاقات الدولية والاقتصادية، محمد الخفاجي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- تقنيات القيادة الذاتية تمتلك القدرة على إعادة تشكيل المدن جذرياً.
- لكن انتشارها الواسع ما يزال رهينًا بعوامل زمنية وتنظيمية، إذ تعيق التعقيدات التشريعية وتفاوت جاهزية البنية التحتية بين الدول تسارع هذا التحول.
- التوقعات الرسمية في عدد من الدول تُظهر أن مبيعات السيارات ذاتية القيادة بمستوياتها المختلفة ما تزال محدودة، وهو ما يعكس بطء التوسع نتيجة المتطلبات التنظيمية والتقنية الصارمة التي تحكم هذه التكنولوجيا الناشئة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يشير الخفاجي إلى أن سوق الذكاء الاصطناعي المخصص للسيارات يتجه نحو نمو سريع، في ظل تدفق استثمارات كبيرة من الشركات العالمية، ما يعكس القناعة المتنامية بأن المركبات ذاتية القيادة ستكون أحد محركات الصناعات المستقبلية.
ويضيف أن عنصر السلامة يشكّل أحد أبرز دوافع الإقبال على هذه التكنولوجيا، مستشهدًا بدراسات ميدانية أجرتها شركات رائدة في مجال القيادة الذاتية، والتي أظهرت مستويات أمان أعلى مقارنة بالقيادة البشرية، ما يعزز الثقة في قدرة الأنظمة الذكية على تقليل الحوادث والمخاطر.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، يؤكد الخفاجي أن التحديات ما تزال كبيرة، مشيرًا إلى غموض الإطار القانوني المتعلق بالمسؤولية في حال وقوع الحوادث، إلى جانب المخاطر السيبرانية التي تهدد الأنظمة الذكية. كما يلفت إلى الحاجة إلى بنية تحتية متقدّمة تشمل خرائط عالية الدقة وشبكات اتصال سريعة، فضلًا عن تردد قطاعات واسعة من المستخدمين بسبب التخوفات المتعلقة بالسلامة والتكاليف.
ويختتم الخفاجي تصريحه بالتأكيد على أن القيادة الذاتية تحمل وعودًا كبيرة لتقليل الازدحام، وتوفير المساحات، وتحسين مستويات الأمان، إلا أن الوصول إلى تبنٍ واسع النطاق لن يكون سريعًا ما لم تتوفر تشريعات واضحة واستثمارات ضخمة وبنية تحتية داعمة. ويرى أن تحقيق انتشار عالمي لهذه التكنولوجيا سيظل تحديًا على المدى القريب، في ظل الحاجة إلى توافق دولي يضمن تنظيم هذا القطاع ويعزز جدواه الاقتصادية على مستوى الإنتاج والتشغيل.


