ورغم أن المحكمة لم تصدر حكماً نهائياً بعد، فإن مجرد التعبير عن هذه الشكوك قد أرسل موجات صدمة فورية عبر الأسواق، تمثلت في ارتفاع الأسهم وتراجع السندات، مما يشير إلى أن المستثمرين بدؤوا بالفعل في تسعير سيناريو الإلغاء المحتمل لهذه الرسوم.
إن المخاطر الاقتصادية المترتبة على هذا التطور كبيرة، حيث قد تُجبر الإدارة على ردّ مبالغ كبيرة من الرسوم الجمركية التي تم تحصيلها، مما يفتح الباب أمام ضغوط غير مسبوقة على الميزانية وسياسة الاحتياطي الفيدرالي. لكن يبقى السؤال: كيف يُترجم المستثمرون شكوك القضاة حول سلطة تعرفات ترامب؟ وهل يجبر إبطال تعرفات ترامب الفيدرالي على إعادة التفكير بأسعار الفائدة؟
استجابة الأسواق للتكهنات المالية وانقسام في التوقعات
أفرزت جلسة المحكمة العليا حول تعرفات ترامب حالة فورية من عدم اليقين في الأسواق، تحولت سريعاً إلى تسعير متضارب لسيناريوهات الإلغاء المحتم، وبحسب تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” الأميركية واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، اتجهت الأسهم نحو الارتفاع بينما شهدت السندات بيعاً كثيفاً، دافعاً عوائد سندات الخزانة نحو الصعود.
وأوضح التقرير أن “هذا التباين يعكس توقعين رئيسيين: التوقع الإيجابي لخفض التكاليف على الشركات المستوردة، والمخاطر السلبية المرتبطة بعبء التعويضات. إذ تشير التقديرات إلى أن الحكم قد يلزم الحكومة برد نحو 100 مليار دولار كرسوم جمركية محصلة، وهو ما يشكل ضغطاً مالياً هائلاً. هذه الضغوط المتصاعدة على العجز والدين العام هي ما يدفع المستثمرين في السندات للمطالبة بعائدات أعلى، مما يجعل الأسواق تتفاعل مع عبء مالي ضخم محتمل قبل حتى صدور القرار”.
وذكر التقرير أن التعرفات تبدأ من حد أساسي يبلغ 10 بالمئة على العديد من الدول وترتفع لتصل إلى 50 بالمئة على السلع القادمة من الهند والبرازيل. ووفقاً لـ لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة، من شأن هذه التعرفات، إذا سُمح لها بالاستمرار، أن تدر 3 تريليونات دولار كإيرادات إضافية للولايات المتحدة بحلول عام 2035، وقد جمعت الحكومة الفيدرالية 151 مليار دولار من الرسوم الجمركية في النصف الثاني من السنة المالية 2025، وهي “زيادة تقارب 300 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من” السنة المالية 2024.
وأشار وزير الخزانة سكوت بيسنت، في إيداع للمحكمة في سبتمبر، أن الولايات المتحدة قد تضطر إلى رد 750 مليار دولار أو أكثر إذا قضت المحكمة العليا بعدم قانونية التعرفات، وتأخر إصدار ذلك الحكم حتى صيف العام المقبل.
التأثير المباشر على قرارات الاحتياطي الفيدرالي
وأوضح التقرير أن التداعيات الاقتصادية لهذه الشكوك تمتد إلى صميم السياسة النقدية، لتلقي بظلالها على مهمة الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) في إدارة التضخم وأسعار الفائدة.
ويرى الاقتصادي ستيفن جونو من بنك أوف أميركا في مذكرة أن إلغاء التعرفات سيحمل تأثيرات إيجابية وسلبية على النمو على المدى القريب، فمن ناحية، قد يؤدي انخفاض أسعار السلع المستوردة إلى تخفيف مؤقت للضغوط التضخمية، الأمر الذي يُسهّل مهمة الفيدرالي في السيطرة على الأسعار. ومن ناحية أخرى، فإن أي أمر بردّ تعويضات بمئات المليارات سيُفاقم العجز المالي، وهذا العجز المتزايد غالباً ما يترجم إلى ضغوط تصاعدية على أسعار الفائدة طويلة الأجل.
هذا الموقف المتناقض يضع الفيدرالي في مأزق، حيث قد يصبح أكثر حذراً تجاه أي تخفيضات في الفائدة، بسبب مخاطر تفاقم الدين العام وتزايد تكلفة الاقتراض.
الفائزون والخاسرون
وفي انتظار القرار، بدأت الأسواق في تسعير المخاطر على مستوى القطاعات، حيث ستُحدد نتيجة الحكم خريطة الفائزين والخاسرين بين الصناعات، طبقاً لتقرير الشبكة الأميركية. وتُشير التحليلات، ومنها تحليل شركة Reflexivity، إلى أن إلغاء التعرفات سيجعل السلع الاستهلاكية المستوردة، وقطاع التكنولوجيا، وشركات البناء من بين أبرز الرابحين، نتيجة للانخفاض المباشر في تكاليف الاستيراد. في المقابل، ستواجه الصناعات المحلية المحمية حالياً، مثل منتجي الصلب والألمنيوم، تحديات كبيرة نتيجة لفقدان ميزة الحماية الجمركية. يدرك المستثمرون أن هذا التوزيع الواضح للمكاسب والخسائر هو الذي سيحدد الديناميكيات السوقية القادمة، خاصة مع تأكيد مسؤولي الإدارة على وجود “خطط بديلة” لفرض الرسوم بطرق قانونية أخرى، ما يطيل أمد حالة عدم اليقين القطاعية.
توقيت حساس للمستثمرين
وبالنسبة للمستثمرين، يأتي النزاع القانوني في توقيت حساس، حيث تتزايد المخاوف بشأن تقييمات السوق المدفوعة بالذكاء الاصطناعي. يتم تداول مؤشر S&P 500 بنحو 23 ضعفاً للأرباح المستقبلية، وهو أعلى بكثير من متوسطاته لمدة خمس وعشر سنوات، وفقاً لـ “FactSet”..
ولفت التقرير أنه لن يكون الترحيب كبيراً بحدوث صراع قانوني فوضوي حول التعرفات، على الرغم من أن إلغاءها سيخلق في المحصلة محفزات إيجابية وسلبية للنمو الاقتصادي.
في حال إصدار أمر بالتعويضات، فسيؤدي ذلك إلى زيادة ضغوط الدين والعجز في وقت كانت فيه الإدارة تدعو إلى انخفاض متواضع في العجز المالي خلال عام 2025. وهذا بدوره قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة مع طلب المستثمرين لعائد أكبر مقابل الاحتفاظ بالدين الأميركي، وتجنب الاحتياطي الفيدرالي لخفض إضافي في أسعار الفائدة.
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري: “تترقب وول ستريت بقلق بالغ قرار المحكمة العليا الأميركية بشأن شرعية التعرفات الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب. الشكوك التي أبداها القضاة، خاصة حول الأساس القانوني لفرض هذه الرسوم، تفتح الباب أمام احتمال إلغاء جزء كبير منها. هذا القرار قد يطلق موجة من التدفقات النقدية الضخمة للشركات، تصل تقديراتها إلى تريليون دولار، مما يغير قواعد اللعبة في الأسواق والسياسة النقدية”.
التأثيرات الفورية
وأوضح أن الأسواق لا تنتظر القرار النهائي، بل تسعّر الاحتمالات فوراً. فالشكوك القضائية هي بمثابة ضوء أخضر للمستثمرين بأن الإلغاء وشيك، مما يترجم إلى تأثيرات مالية فورية:
- مكاسب فورية للشركات المتضررة: الشركات التي دفعت هذه الرسوم على وارداتها، مثل شركات التجزئة والتكنولوجيا، هي الرابح الأكبر. الإلغاء يعني استرداد الرسوم المدفوعة سابقاً، والتي قد تصل إلى تريليون دولار كحد أقصى. هذا المبلغ الضخم يمثل دفعة مالية غير متوقعة للشركات، أشبه بتحفيز اقتصادي مفاجئ. ومثال عملي على ذلك: أسهم شركات مثل آبل أو جنرال موتورز، التي عانت من ارتفاع تكاليف المكونات المستوردة، قد تشهد ارتفاعاً فورياً، حيث أن استرداد الرسوم سيعزز سيولتها وأرباحها.
- تحسن هوامش الأرباح: إلغاء الرسوم سيقلل تكلفة الاستيراد بشكل دائم، مما يحسن هوامش أرباح الشركات الصناعية والتكنولوجية التي تعتمد على سلاسل التوريد العالمية.
- إعادة توزيع المخاطر: رغم التفاؤل، يدرك المستثمرون أن الإدارة قد تفرض رسوماً جديدة بأسس قانونية مختلفة. هذا يعني أن بعض الصناعات قد تخسر مكاسبها لاحقاً، وأن المخاطر ستُعاد توزيعها بين القطاعات.
وأشار الدكتور الشبشيري إلى أن الأسواق تتعامل مع هذا التطور كـفرصة مالية قصيرة الأجل، مدفوعة بتوقع تدفق نقدي ضخم.
زخم فوري للمخاطرة
ورداً على سؤال حول كيفية ترجمة المستثمرين لشكوك القضاة حول سلطة تعرفات ترامب ذكر الخبير الاقتصادي الشبشيري أن المستثمرين يقرأون المداولات القضائية كإشارة سياسية-قانونية مبكرة، ويستخلصون منها تفسيراً مزدوجاً:
- ضعف الأساس القانوني: يرى المستثمرون أن المحكمة تشير إلى أن الأساس الذي استندت إليه التعرفات السابقة كان ضعيفاً.
- توقع إعادة الهيكلة لا الإلغاء الكامل: التفسير السائد هو أن المحكمة ستجبر الإدارة على إعادة هيكلة التعرفات بأسس قانونية أقوى، وليس إلغاءها بالكامل.
وأوضح أن هذا التفسير المزدوج يولد توقعين في الأسواق
- الأثر الفوري (السيولة): توقع تدفقات نقدية إيجابية ضخمة للشركات من استرداد الرسوم، مما يخفف الضغط على السيولة ويدعم أسعار الأسهم.
- الأثر متوسط الأجل (التضخم): فهم أن الرسوم الجديدة ستأتي لا محالة. هذه الهيكلة الجديدة قد تؤدي إلى زيادة تضخمية طفيفة بمرور الوقت. لماذا؟ لأن التجارب السابقة أظهرت أن انخفاض الرسوم لم يترجم بالكامل إلى انخفاض في أسعار المستهلكين، مما يعني أن الأسعار قد تبقى مرتفعة حتى مع تغيير الرسوم.
وخلص إلى أن الأسواق تترجم شكوك القضاة إلى زخم فوري للمخاطرة، مع توقعات تضخمية محدودة على المدى المتوسط.
التأثير على قرار الفيدرالي
أما فيما يخص أسعار الفائدة أوضح الدكتور الشبشيري أن العلاقة مع قرار بنك الاحتياطي الفيدرالي ليست مباشرة، وتعتمد على تأثير القرار على التضخم وفقاً لمايلي:
- تأثير الدفعة المالية: إذا أُلغيت الرسوم، فإن الدفعة المالية (تريليون دولار محتمل) التي ستتلقاها الشركات ستدعم الطلب الكلي في الاقتصاد. هذا التحفيز المفاجئ ليس عاملاً انكماشياً، بل قد يزيد من الضغوط التضخمية.
- تأثير الرسوم الجديدة: إعادة هيكلة الرسوم قد تؤدي إلى زيادات سعرية بسيطة لدى المستهلكين. فإذا كان متوسط الرسوم الجمركية الفعلي قد ارتفع من 2.3 بالمئة إلى حوالي 15.8بالمئة في ذروة التعرفات، فإن أي رسوم جديدة ستظل تضغط على الأسعار.
وختم بقوله: “إبطال التعرفات لن يمنح الفيدرالي مبرراً فورياً لتغيير مساره. سيظل قراره معتمداً على مسار التضخم الأساسي وتوقعات الأسعار المرتبطة بإعادة الهيكلة الجمركية. الأثر الإجمالي أقرب إلى تحييد السياسة النقدية بدلاً من دفعها نحو تيسير أسرع”.
الاستجواب يزيد توقعات إلغاء الرسوم
بدوره، قال الخبير الاقتصادي علي حمودي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “إن الاستجواب الصارم الذي أجرته المحكمة العليا الأميركية حول الرسوم الجمركية العالمية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب قد زاد من التكهنات بإلغائها، ولكنه أثار أيضاً احتمال حدوث فوضى إضافية، حيث من المتوقع على نطاق واسع أن يتحول إلى تكتيكات تجارية أخرى في أعقاب حكم سلبي ضد الرسوم الجمركية”.
وأضاف: “خلال المرافعات الشفوية شكك قضاة المحكمة العليا في سلطة ترامب بفرض الرسوم الجمركية بموجب قانون الصلاحيات الاقتصادية للطوارئ الدولية لعام 1977 (IEEPA)، والذي لا يتضمن أي إشارة إلى الرسوم الجمركية – بل يتضمن فقط صياغة تتعلق بتنظيم الواردات خلال حالات الطوارئ الوطنية التي يعلنها رئيس الولايات المتحدة”.
ويرى حمودي بناءً على الأسئلة التي طرحها القضاة، أن تعرفات قانون IEEPA في خطر، ومن المهم أيضاً ملاحظة أن جميع قضاة المحكمة، باستثناء صامويل أليتو وكلارنس توماس، “بدوا متشككين في أن قانون IEEPA يمنح
ترجيحات بتخفيضات حادة في أسعار الفائدة
ورجح الخبير الاقتصادي حمودي لجوء إدارة ترامب في حال خسرت قضية التعرفات، إلى قوانين تجارية أخرى، مما يزيد من الغموض التجاري وعدم اليقين، وسيزيد هذا ربما من بطئ حركة الأعمال والاقتصاد العالمي”.
وفيما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي سيعيد النظر في أسعار الفائدة قال حمودي: “من المتوقع أن تكون هناك آثار محتملة على السياسة النقدية لقرار قضائي ضد ترامب من شأنه أن يزيد من حالة عدم اليقين … بشأن سياسة التعرفات”.
وأضاف: “قد نشهد تخفيضات حادة في أسعار الفائدة، وأن المزيد من عدم اليقين التجاري قد يُشكل عبئاً على الاقتصاد. لكن يمكن تعويض ذلك بأسعار فائدة أكثر مرونةً بشكل معتدل تبعاً لوضعية تفويض الاحتياطي الفيدرالي المزدوج لاستقرار الأسعار وتحقيق أقصى قدر من التوظيف”.
ومع ذلك، يشير حمودي إلى أنه “غير مرجح صدور حكم قبل بداية عام 2026، والشركات في جهل تام بشأن استرداد الرسوم الجمركية المحتملة التي تجاوزت 100 مليار دولار، والتي دُفعت حتى الآن بموجب قانون IEEPA في حال خسر ترامب قضيته”.


