كلمات السيسي لم تكن مجرد خطاب دبلوماسي، بل هي صرخة سياسية تحمل في طياتها تحليلا عميقا لموازين القوة في المنطقة، وتضع النقاط على الحروف حول سقوط محاور الميليشيات وفقدانها الشرعية، وانعكاسات ذلك على مستقبل فلسطين وإسرائيل.
بين تصريحات السيسي وتحليلات خبراء سكاي نيوز عربية، تتكشف اليوم حقيقة الصراع المستمر منذ عقود، وما إذا كانت هذه القمة تمثل فرصة حقيقية لإعادة كتابة مسار الشرق الأوسط، أم مجرد توقف مؤقت يمنح الأطراف فرصة لإعادة ترتيب أوراقها.
لحظة إنصاف للعقلانية العربية
مدير عام سكاي نيوز عربية، نديم قطيش، وصف ما يحدث بأنه “لحظة إنصاف تاريخية” لقادة عرب حاولوا مد جسور السلام في المنطقة، مثل الرئيس أنور السادات، والملك حسين، والحبيب بورقيبة، والملك الحسن الثاني، قائلا إن هذه اللحظة تمثل استعادة “العقلانية العربية” بعد سنوات من سيطرة محور الميليشيات الذي فشل في تحقيق الاستقرار.
قطيش أشار إلى أن هذه القيادات لم تكن مجرد رموز تاريخية، بل كانت تمثل خيارا مختلفا عن سياسات الصراع المستمر، مضيفا: “اليوم نحن نرى سقوط محور الميليشيات، الذي فقد القدرة على الردع بعد الدماء والدمار في غزة ولبنان، وأصبح عاجزا عن تحقيق الشرعية من خلال المقاومة”.
وأكد قطيش أن هذا المحور، الذي كان يعتمد على إيران وحلفائها، لم يعد قادرا على لعب الدور الذي كان يمارسه سابقا: “الحدود مع سوريا مغلقة، الحدود المصرية مع غزة مغلقة، وإيران لم تعد سندًا كما كانت من قبل”.
حماس وحزب الله.. سقوط الشرعية والمصداقية
بحسب قطيش، فقدت حركات مثل حماس وحزب الله القدرة على الحركة الميدانية والشرعية، مشيرا إلى الخسائر الكبيرة في الأرواح والبنية التحتية: “بعد 60 إلى 100 ألف قتيل في غزة ودمار شامل، لم تعد المقاومة مصدر شرعية، وأي شخصية قيادية في أي حركة مقاومة أصبحت مستهدفة دوليًا وإقليميًا”.
وأضاف: “من يريد أن ينجو فعليًا يجب أن يفهم أن هذا العصر لن يسمح بوجود ميليشيات قادرة على تحدي الدولة الدولية والإقليمية، وأن أي محاولات للاستمرار ستنتهي بالمزيد من الإقصاء والاحتواء”.
الثقافة قبل السلاح
يرى المحلل السياسي عماد الدين أديب أن معالجة الأزمة في الشرق الأوسط لا تقتصر على الإجراءات الأمنية أو وقف إطلاق النار، بل تتطلب تغييراً جذرياً في الثقافة والفكر الذي نشأ عليه البعض منذ الصغر.
وأوضح أديب أن الجماعات العقائدية والدينية مثل الإخوان المسلمين تغرس منذ الطفولة ما وصفه بـ”ثقافة الموت”، عبر مراحل متعددة تبدأ من كتاب التربية والكشافة والشبيبة، وصولا إلى مجلس الشورى ومجلس الإرشاد والتنظيم الجهادي، ليصبح المرء جزءاً من القيادة العليا. هذه التركيبة، بحسبه، “تسري كالدماء في عروقهم”.
وانتقد أديب ما وصفه بـ”الخطأ الاستراتيجي” للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي سمح حماس لتستلم زمام الأمور بدلا من تدخل قوات عسكرية، معتبراً أن ذلك يمثل “حماقة كبرى” و بمثابة قبلة الحياة لحماس.
وأشار إلى أن الأزمة لا تقتصر على حماس، بل تشمل أيضا نتنياهو ودوره في المنطقة، واصفا إياه بأنه أصبح طرفا فعالا وخطراً في الشرق الأوسط.
وأضاف أن الرئيس ترامب، بحضوره المستمر، يزيد من حالة عدم اليقين، حيث “ينتقل بوجهه بين اليمين واليسار”، ما يعقد أي حلول مستدامة.
ترامب والرهان على حماس
وفقًا لموفق حرب، محلل الشؤون الأميركية في سكاي نيوز عربية، لعب الرئيس دونالد ترامب دورًا مهمًا في إعادة حماس إلى طاولة التفاوض، لكنه شدد على أن هذه الخطوة ليست نهاية للصراع: “الاتفاق الحالي مجرد مرحلة انتقالية، تهدف إلى تجزئة الصراع وليس حله. السلام الحقيقي يتطلب مشروعا فلسطينيا قادرا على إدارة الدولة”.
حرب أشار إلى أن عوامل عدة مكنت من الوصول إلى هذه اللحظة، أبرزها ضعف محور الممانعة وإضعاف إيران بعد سنوات من الصراع: “بعد هزيمة حماس وانهيار محور الميليشيات، أصبح بالإمكان تحقيق وقف إطلاق النار، لكن المسار السلمي لا يزال غير واضح والكثير من المضمون غائب”.
كما شدد على أن المجتمع العربي لم يجد حتى اليوم “لقاحا ضد التطرف”، وأن النخب السياسية والثقافية لم تملك الجرأة لمواجهة الفكر المتطرف بنفس فعالية المواجهة الأمنية.
الشارع الإسرائيلي يحتاج إلى خطاب عربي مباشر لوقف التطرف وإحياء السلام
قال نضال كناعنة، محرر الشؤون الإسرائيلية في سكاي نيوز عربية، إن ما يظهره استطلاع الرأي الإسرائيلي من مواقف ضد الفلسطينيين والسلام لا يعكس بالضرورة إرادة الشارع الحقيقي.
وأضاف أن التاريخ أثبت أن الإسرائيليين يمكن أن يقبلوا السلام إذا خطب إليهم بعقلانية، كما حدث بعد الانتفاضة الأولى وحروب عديدة، وصولًا إلى خطاب السادات في الكنيست بعد حرب أكتوبر.
وأوضح كناعنة أن الصوت الوحيد الذي سمعه الشارع في العقدين الأخيرين كان صوت اليمين ونتنياهو، ما خلق إجماعًا سطحيًا على التطرف، بينما رغبات المواطنين تختلف في الداخل.
لذلك، يرى أن أصوات عربية قوية، مثل صوت الرئيس السيسي، يمكن أن تقنع الإسرائيليين بأن السلام ليس تهديدًا، بل مصلحة لهم ولأبنائهم.
وأكد أن التطرف الإسرائيلي لم ينشأ فجأة، بل هو نتاج مستنقع القضية الفلسطينية غير المحلولة. ولوقفه، يجب الضغط على السلطة الفلسطينية لتقديم خطة فلسطينية واضحة، لأن أي جهود إقليمية لن تجدي دون معالجة القضية المركزية التي تُغذي الصراعات.
تحولات إقليمية ودور السعودية
بحسب حرب، كان للموقف السعودي دور حاسم في تسريع المفاوضات خلال الأيام الأخيرة، مؤكدًا أن الرياض وضعت شرطًا واضحا: لا يمكن الاستمرار في المسار إلا إذا كان هناك إطار موثوق للسلام.
وأشار إلى أن اتفاقيات الإبراهيمية لعبت دورًا في تجزئة الصراع وتوفير فرصة لإسرائيل، لكنها أيضًا أظهرت أن السلام يتطلب توافقًا إقليميًا ودوليًا، وهو ما يجعل أي اتفاق قابلًا للبقاء مشروطًا بالمسار الفلسطيني الداخلي واستعادة القوة الوطنية.
السلام بين الأمل والمخاطر
بينما تُسدل قمة شرم الشيخ ستارها على المشهد الإقليمي، يبقى السؤال الأكبر مفتوحًا: هل يمثل اتفاق وقف إطلاق النار خطوة أولى نحو سلام شامل، أم مجرد فترة مؤقتة تمنح الأطراف فرصة لإعادة ترتيب صفوفها؟.
الخبراء يؤكدون أن أي أفق حقيقي للسلام لن يتحقق إلا بإعادة بناء مشروع فلسطيني وطني قادر على الحكم والإدارة، ومعالجة الفكر المتطرف الذي أعاق استقرار المنطقة لعقود، وضمان توافق إقليمي ودولي مستدام لدعم أي اتفاق.
في هذه اللحظة الحرجة، تقف المنطقة على مفترق طرق بين الأمل والمخاطر، بين فرصة لتغيير جذري في مسار الشرق الأوسط، وبين العودة المحتملة إلى دوامة العنف والصراع القديم.
وبالرغم من الرسائل التفاؤلية، يبقى الواقع السياسي مليئًا بالأسئلة والتحديات، لتظل الصفحة المقبلة من تاريخ المنطقة غير مكتملة، مفتوحة على الاحتمالات جميعها.