لقد فشلت الحكومات الفرنسية المتتالية في إقناع برلمان منقسم بضرورة إقرار تخفيضات في الإنفاق، ما أبقى على مستويات الدين العام والعجز أعلى بكثير من القواعد الأوروبية المُلزمة (عجز 5.8 بالمئة ودين 113 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي). وفي ظل هذه البيئة التي تتشابك فيها الفوضى السياسية مع التدهور المالي، ترتفع حدة المخاوف في بروكسل والأسواق المالية بشأن قدرة ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو على استعادة زمام أموره.
لذلك، يطرح المشهد الحالي مجموعة من التساؤلات الاقتصادية الجوهرية التي تحدد مسار فرنسا والاتحاد الأوروبي: هل تُشعل استقالة ليكورنو فتيل أزمة ديون فرنسية جديدة في أوروبا؟ وهل أصبحت فرنسا، بسبب الديون المتضخمة، هي ‘الرجل المريض’ الجديد في أوروبا؟ وما الثمن الاقتصادي الذي سيدفعه ماكرون والمستثمرون جراء الأزمة السياسية، وهل تعرقل الفوضى الحكومية المتجددة في فرنسا النمو الاقتصادي؟
الانهيار السياسي وتداعياته على الأسواق
أشعلت استقالة رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان ليكورنو، بعد أسابيع قليلة من تعيينه، فتيل أزمة سياسية جديدة في البلاد، ليصبح خامس رئيس وزراء لفرنسا في أقل من عامين. هذه الفوضى جاءت لتؤكد الشلل السياسي المزمن، حيث كانت مهمة ليكورنو الأصعب هي إقناع برلمان منقسم بتمرير ميزانية 2026، بحسب تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأوضح التقرير أن الشك في تمرير الميزانية أدى إلى تفاعل قوي في الأسواق، فقد وصل العائد على سندات الحكومة الفرنسية لأجل 30 عاماً إلى أعلى مستوى له في شهر واحد مسجلاً 4.441 بالمئة، بينما انخفض مؤشر “كاك 40” الفرنسي بنسبة 1.9 بالمئة، وتراجع سعر اليورو بنسبة 0.7 بالمئة مقابل الدولار.
وأشار إلى أن ليكورنو استقال بعد ساعات قليلة فقط من تشكيل حكومة جديدة، مما وضع ضغوطًا هائلة على الرئيس إيمانويل ماكرون الذي شكل ثلاث حكومات أقلية فاشلة.
خطر الديون والعجز القياسي الأوروبي
وأضاف تقرير الشبكة الأميركية: “لا ينفصل الانهيار السياسي عن التحديات المالية الهيكلية التي تواجه البلاد، فإن الأزمة تتفاقم على خلفية محاولات فاشلة سابقة لحكومات متعاقبة لتمرير ميزانيات تتضمن تخفيضات في الإنفاق وزيادات في الضرائب.
وأشار التقرير إلى أن عجز فرنسا في الميزانية بلغ 5.8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، بينما وصل حجم ديونها إلى 113 بالمئة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام ذاته. وكلا المستويين أعلى بكثير من قواعد الاتحاد الأوروبي، التي تشترط ألا يتجاوز العجز 3 بالمئة وألا يتجاوز الدين العام 60 بالمئة من الناتج الاقتصادي، مما يبرر التساؤل: هل أصبحت فرنسا ‘الرجل المريض’ الجديد في أوروبا؟
وأدت الأزمة السياسية إلى رد فعل سلبي فوري في أسواق الدين السيادي. وبحسب تقرير نشرته وكالة “بلومبرغ” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، تراجعت السندات الفرنسية، مما زاد من حالة عدم اليقين السياسي بين المستثمرين.
وأوضح التقرير أن العائد على سندات الـ 10 سنوات ارتفع بتسع نقاط أساس ليصل إلى 3.6 بالمئة، مما وسّع علاوة الاقتراض الوطنية على الدين الألماني — وهو مقياس رئيسي للمخاطر المالية — إلى أكثر من 89 نقطة أساس، وهو أعلى مستوى منذ أواخر عام 2024.
قال أوليفييه فور، زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يمتلك حزبه تصويتاً مرجحاً محتملاً في البرلمان، إن مجموعة ماكرون “تنهار” وأن الحكومة الجديدة “فقدت أي شرعية متبقية”. وأضاف قبل إعلان ليكورنو عن استقالته بوقت قصير: “نحن نشهد أزمة سياسية غير مسبوقة”.
وأشار التقرير إلى أن ليكورنو واجه المشكلة المستعصية نفسها التي أطاحت بأسلافه: الحاجة إلى تمرير ميزانية تتضمن تخفيضات غير شعبية لضبط أكبر عجز في منطقة اليورو. وقد حذر رئيس الوزراء المستقيل من أن الفشل في اعتماد الميزانية واللجوء إلى تشريع الطوارئ سيعني تضخم عجز فرنسا إلى6 بالمئة بدلاً من انخفاضه إلى 4.6 بالمئة
الخيارات الصعبة لماكرون وتوقعات السوق
وأوضح تقرير الوكالة الأميركية أنه “لم يقتصر الأمر على ليكورنو؛ فقبله اضطر سلفه فرانسوا بايرو للاستقالة بعد خسارة تصويت على الثقة بشأن خطة خفض العجز، كما تمت الإطاحة بميشيل بارنييه قبل ذلك لنفس السبب.
وذكر التقرير أن الفشل في اعتماد الميزانية يعرقل الأجندة البرلمانية، ويضع الرئيس إيمانويل ماكرون أمام ثلاثة خيارات صعبة: تسمية رئيس وزراء جديد، أو الدعوة إلى انتخابات برلمانية، أو الاستقالة، مع تأكيده المسبق على أنه لن يستقيل.
وأفاد التقرير بأن محللين استثماريين يتوقعون أن الوضع الحالي يقرب البلاد من انتخابات جديدة، وفي هذا السيناريو، قد ترتفع فروق العائدات وتختبر حاجز الـ 100 نقطة أساس، مما يؤكد أن الفوضى الحكومية المتجددة في فرنسا تعرقل بشكل مباشر النمو الاقتصادي عبر رفع تكلفة الاقتراض.
صدمة مزدوجة
وفي حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أكد مستشار الاقتصاد الدولي عامر الشوبكي أن استقالة رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان ليكورنو جاءت بمثابة صدمة مزدوجة اقتصادية وسياسية لفرنسا.
وأوضح أن “الاستقالة المفاجئة التي قدّمها ليكورنو صباح الإثنين، بعد ساعات فقط من إعلان تشكيل حكومته، أعادت فتح قناة المخاطر في السوق الفرنسية”، مشيراً إلى أن مؤشر كاك 40 انخفض بنحو 2 بالمئة في منتصف الجلسة، فيما تراجع اليورو بنسبة 0.5 بالمئة أمام الدولار، وارتفعت عوائد السندات الفرنسية مع اتساع الفارق مع السندات الألمانية إلى أعلى مستوى في تسعة أشهر.
وأضاف الشوبكي أن هذا التحرك السريع يؤكد ارتباط المخاطر السيادية الفرنسية مباشرة بحالة الشلل السياسي واحتمال تعثر الموازنة لعام 2026.
ولفت إلى أن تفاقم الديون في فرنسا يجعلها اليوم توصف بأنها “الرجل المريض الجديد في أوروبا”، موضحاً أن “القارة الأوروبية، وخاصة اقتصادَيها الأكبر فرنسا وألمانيا، باتت تعاني من تباطؤ واضح”. وقال إن فرنسا تمتلك أعلى دين عام في أوروبا، مع عجز في الموازنة بلغ 5.8 بالمئة من الناتج المحلي في عام 2024 مقارنة بـ5.4 بالمئة في عام 2023، أي بارتفاع قدره 0.4 نقطة مئوية.
صافي الدين الحكومي في مسار تصاعدي
ونوه بأن هناك توصية أوروبية ملزمة بخفض العجز إلى أقل من 3 بالمئة من الناتج المحلي بحلول 2029، وهو ما سيتطلب سياسة إنفاق مقيدة للغاية. كما ذكر أن صافي الدين الحكومي الفرنسي بلغ نحو 3.17 تريليون يورو في نهاية الربع الثاني من عام 2025، متجاوزاً 107بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، في مسار تصاعدي يفوق التقديرات السابقة للجهات الرقابية.
وأوضح مستشار الطاقة الدولي الشوبكي أن وكالات التصنيف الائتماني خفّضت تصنيف فرنسا إلى AA مع نظرة مستقرة، ما يعكس قناعة الأسواق بأن الدين سيظل مرتفعاً لفترة طويلة. وأضاف: “كانت فرنسا تمثل سابقاً نقطة قوة هيكلية في منطقة اليورو، لكنها اليوم أصبحت نقطة ضعف هيكلية داخل الاتحاد الأوروبي”.
وفي ما يتعلق بتداعيات الأزمة السياسية، أشار الشوبكي إلى أن هناك ثمناً اقتصادياً فورياً سيدفعه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستثمرون، موضحاً أن تكلفة الاقتراض سترتفع مع اتساع العجز المتوقع إلى نحو 6.1 بالمئة من الناتج المحلي، ما يعني زيادة الحاجة إلى التمويل عبر الديون.
تخفيض التصنيف الائتماني يضاعف كلفة التمويل على الشركات والأسر
وأضاف أن الأسهم المصرفية الفرنسية قادت موجة الهبوط في الأسواق، مسجلة خسائر بين 4 و6 بالمئة، ما ضيّق الأوضاع الائتمانية وأثر سلباً في الاستثمار الخاص. كما حذّر من أن أي فشل في إقرار موازنة تقشفية قد يعرض باريس لضغوط إضافية ضمن إجراءات العجز المفرط وربما إلى تخفيض جديد في التصنيف الائتماني، بما يضاعف كلفة التمويل على الشركات والأسر ويهدد بتفاقم الضغوط الاقتصادية.
وحول آفاق النمو، قال الشوبكي: “إن الفوضى الحكومية المتجددة ستنعكس سلباً على الاقتصاد الفرنسي”، مشيراً إلى أن ارتفاع عوائد السندات ينتقل سريعاً إلى أسعار القروض، فيما يُفرض على باريس كبح نمو صافي الإنفاق العام في عام 2025 بموجب قواعد الاتحاد الأوروبي المحدّثة، وهو ما يُعتبر قيداً انكماشياً.
وأضاف أن تزامن هذا القيد مع تشدد الأوضاع التمويلية وعدم اليقين السياسي من شأنه أن يؤدي إلى نمو أضعف ويزيد من هشاشة الاقتصاد الفرنسي أمام الصدمات، مع ارتفاع حساسية السوق لأي تطور سياسي جديد.
وختم الشوبكي حديثه قائلاً إن “استقالة ليكورنو ليست حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل جاءت في توقيت دقيق يشهد فيه الاقتصاد الفرنسي عجزاً يقارب 6 بالمئة من الناتج المحلي ومساراً تصحيحياً صارماً”. وأكد أن عجز باريس عن تشكيل حكومة قادرة على تمرير موازنة منضبطة بسرعة قد يحوّل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو إلى بؤرة عدوى مالية عبر قناة العوائد الائتمانية، لتصبح فرنسا مصدر الخطر الأكبر في سوق الدين الأوروبية، بدلاً من إيطاليا أو اليونان كما كان في السابق.
الاضطراب يسرع من تآكل ثقة المستثمرين بالاستقرار المالي لمنطقة اليورو
بدوره، قال طارق الرفاعي الرئيس التنفيذي لمركز “كوروم للدراسات الاستراتيجية” في حديثه لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية: “تعمّق استقالة ليكورنو الأزمة السياسية والمالية في فرنسا، مفاقمةً المخاوف بشأن ديون البلاد القياسية وعجزها المستمر، الذي تجاوز الحدود التي وضعها الاتحاد الأوروبي. وقد يسرّع هذا الاضطراب من تآكل ثقة المستثمرين في السندات الفرنسية والاستقرار المالي الجماعي لمنطقة اليورو”.
وأضاف: “يغذي الشلل السياسي الفرنسي والانزلاق المالي سردية “الرجل المريض”، حيث يقوّض العجز المستمر والإنفاق المرتفع مصداقية المالية العامة. تعطّل الاستقالة الإصلاحات وتقلّل من احتمالية خفض العجز بشكل موثوق، في حين أن الضغوط الشعبوية في دورة الانتخابات الوشيكة قد تدفع الأحزاب إلى اقتراح سياسات أكثر توسعية – وربما غير مستدامة”.
الثمن الاقتصادي لماكرون والمستثمرين
ولخص الرفاعي الثمن الاقتصادي جراء هذه الأزمة بعدة نقاط أبرزها:
- أدّى عدم الاستقرار المستمر إلى ارتفاع فروق أسعار السندات الفرنسية مقارنةً بألمانياً، مما يشير إلى زيادة المخاطر المتصوّرة ورفع تكاليف الاقتراض الفرنسية.
- يخشى المستثمرون من أن تفقد فرنسا تصنيفها الائتماني AA، مما قد يؤدي إلى انتشار عدوى أوسع نطاقًا، لا سيما وأن ديون الحكومة الفرنسية متداولة على نطاق واسع في البنوك والصناديق الأوروبية.
- قدرة ماكرون على مواصلة الإصلاحات الداعمة للنمو أو خفض العجز محدودة بشدة، مما يُضعف التوقعات الاقتصادية.
مخاطر النمو
ورجح الرفاعي أن يعيق تجدد الفوضى الحكومية الإصلاحات ويُثني الاستثمار، مما يُبطئ النمو مع تزايد حالة عدم اليقين وتضييق الحيز المالي. وقال: “إذا طالت أزمة فرنسا، فقد تُقوّض تضامن منطقة اليورو وتُضع البنك المركزي الأوروبي تحت ضغط للتحرك، مع تداعيات تمتد إلى الأسواق الأوروبية”.
وختم بأن “الأزمة الفرنسية المتفاقمة تشكل مخاطر نظامية على منطقة اليورو، وقد تُمثّل بداية لقلق أوسع بشأن الديون الأوروبية إذا لم يتم احتواؤها بسرعة”.