فالدولة التي بنت سمعتها خلال العقدين الأخيرين على أنها وسيط قادر على جمع الأطراف المتناقضة حول طاولة واحدة، باتت الآن موضع تساؤل: هل يمكن أن تستمر بدور الوسيط بعد أن أصبحت هدفًا في المعادلة؟
رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أكد أن بلاده لن تثنيها أي ضغوط عن الاستمرار في جهود الوساطة. لكنه، ولأول مرة بهذا الوضوح، اتهم إسرائيل بتخريب كل فرصة للسلام، خاصة بعد محاولة اغتيال وفد حماس في الدوحة.
هذه الاتهامات العلنية تكشف حجم المأزق القطري: فهي لا تستطيع التخلي عن دور الوسيط بسهولة، وفي الوقت نفسه تدرك أن حيادها بات محل شك من قبل الأطراف الأخرى.
المحللون يرون أن الغارة لم تضعف فقط موقف حماس، بل أضعفت صورة قطر كوسيط نزيه. بعد استنفادها كل المحاولات لإقناع حماس بقبول المقترح الأميركي، ربما تجد نفسها مضطرة لإلقاء الكرة في ملعب واشنطن، ومطالبتها باستخدام نفوذها المباشر للضغط على إسرائيل.
لكن ذلك يعني عمليا تقليص الدور القطري الذي شكل أحد أعمدة المفاوضات في السنوات الأخيرة.
واشنطن بين الغضب والحسابات الدقيقة
الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يُخف امتعاضه من الغارة الإسرائيلية على قطر، معلنًا أنه “ليس سعيدًا” بما جرى، ومؤكدًا أنه سيدلي ببيان مفصل لاحقًا. غير أن تصريحاته تكشف عن معادلة شائكة: فمن جهة، لا يريد ترامب أن يبدو وكأنه يقبل باستهداف حليف مهم مثل قطر، ومن جهة أخرى، لا يجرؤ على التخلي عن التزام بلاده التاريخي بدعم إسرائيل.
أوضح مدير مركز التحليل السياسي العسكري في معهد هدسون، ريتشارد وايتز خلال حديثه إلى “الظهيرة” على “سكاي نيوز عربية” أن الغارة تمثل، في جوهرها، قرارا إسرائيليا بالتخلي عن المفاوضات مع حماس.
يقول وايتز: “الشروط التي طرحتها إسرائيل على حماس كانت شبه مستحيلة. فحتى لو وافقت الحركة على تسليم الرهائن، كانت إسرائيل ستواصل وجودها العسكري في القطاع ولن تنسحب. هذا جعل المفاوضات أصلًا غير قابلة للحياة”.
ويرى وايتز أن الهجوم يعكس تصرفا إسرائيليا منفردا، بعيدا عن التنسيق الكامل مع واشنطن. وهو ما يفسر، بحسبه، غضب ترامب: “الرئيس الأميركي يشعر بالقلق من أن يُفهم أن إسرائيل تجاوزت أميركا أو تجاهلتها في قرارات استراتيجية بهذا الحجم. ترامب يريد أن يُظهر أن واشنطن لا تزال الطرف المركزي في أي تفاهمات تخص غزة”.
ومع ذلك، يؤكد وايتز أن واشنطن ما زالت ترى في قطر لاعبا مهمًا في الوساطة، وأن ترامب سيحرص على إبقاء قنواته مفتوحة مع القيادة القطرية.
لكنه استبعد أن تسير الولايات المتحدة على خطى الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات على إسرائيل، بسبب نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن والاعتبارات السياسية الداخلية الأميركية.
أوروبا تكسر الصمت وتلوّح بالعقوبات
التحرك الأوروبي هذه المرة بدا مختلفًا. فقد أعلنت المفوضية الأوروبية تعليق جميع المدفوعات المقررة لإسرائيل، في خطوة وُصفت بأنها غير مسبوقة.
أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية، قالت بوضوح إن السلوك الإسرائيلي في غزة، وخاصة بعد استهداف الدوحة، لم يعد مقبولا، وإن على أوروبا أن تعيد تقييم علاقتها مع تل أبيب.
هذا الموقف تُرجم إلى إجراءات عملية: أولها التهديد بمراجعة اتفاقيات الشراكة والتجارة مع إسرائيل، وثانيها فرض عقوبات مباشرة على وزيرين إسرائيليين متشددين، هما بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ومنعهما من دخول أراضي الاتحاد الأوروبي.
ورغم أن هذه الإجراءات تبدو رمزية إذا ما قورنت بالضغط الأميركي المحتمل، إلا أنها تمثل تحولا سياسيا في لغة أوروبا التي غالبًا ما اكتفت سابقا ببيانات قلق وتحذير.
الخطوة الأوروبية تشير إلى بداية تصدع حقيقي في العلاقة بين تل أبيب وعواصم أوروبية عديدة. غير أن السؤال يبقى: هل تملك أوروبا أدوات ضغط فعالة على الأرض، أم أن تأثيرها سيبقى محصورًا في الرمزية السياسية والدبلوماسية؟.
إسرائيل بين هاجس الأمن وطموحات السيطرة
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حاول أن يقلب الطاولة بخطاب مغاير. فقد قال إن الغارة على الدوحة قد تكون “تمهيدًا لإنهاء الحرب وتحقيق السلام”. لكن هذا الطرح بدا بعيدًا عن واقع العمليات العسكرية.
فبحسب مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عماد جاد، فإن ما تقوم به إسرائيل ليس رد فعل فقط، بل جزء من رؤية استراتيجية أشمل.
جاد يوضح: “لا أرى أن إسرائيل تحركت دون علم واشنطن. التاريخ يعلمنا أن أي مغامرة إسرائيلية كبرى دون غطاء أميركي تُكلِّفها الكثير. العدوان الثلاثي عام 1956 مثال حي: عندما رفضت واشنطن تغطية بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، انسحبوا مضطرين. لذلك لا أتصور أن إسرائيل تكرر هذا الخطأ. ما جرى في الدوحة تم بموافقة أميركية ضمنية”.
لكن جاد يرى أن الهدف الإسرائيلي أبعد من مجرد ضرب حماس: “نتنياهو لم يُخفِ طموحه بتحويل غزة إلى ما يشبه ريفيرا، أي السيطرة الكاملة وإعادة تشكيل القطاع بما يخدم المصالح الإسرائيلية. هذا يعني عمليا تنفيذ سياسات تطهير عرقي، عبر دفع السكان نحو الحدود المصرية”.
حماس.. بين ضربة القيادة وتشدد المواقف
حماس وصفت المقترح الأميركي الأخير بأنه “وثيقة استسلام”، لكنها كانت تناقشه قبل الضربة على الدوحة. اليوم، وبعد محاولة اغتيال قادتها، عادت لتشدد على أنها لن تقبل بأي اتفاق لا ينص على انسحاب كامل لإسرائيل من القطاع.
يلفت عماد جاد إلى أن حماس أضاعت فرصًا كثيرة: “قُدمت لها عروض عديدة منذ نهاية عام 2023، بعضها كان سخيا بشكل غير مسبوق، لكنها رفضت جميعها.
الخلافات بين القيادة السياسية في الدوحة والقيادة العسكرية في غزة زادت الموقف تعقيدا”. وبرأيه، فإن القيادة الحالية للحركة أصبحت عقبة حقيقية أمام أي تسوية، وهو ما جعل الولايات المتحدة وإسرائيل تعتبران أن التخلص منها قد يكون السبيل لفرض واقع جديد.
جاد أضاف: “لو قُتل قادة الصف الأول لحماس، ستكون المفاوضات شبه مستحيلة. إسرائيل ستفقد الطرف الذي يمكن التفاوض معه. لكن إن تبين أنهم نجوا، فقد تعتبر حماس ذلك نصرا معنويا يعزز موقفها، حتى لو زاد تصلبها”.
الوساطة على المحك
الغارة على الدوحة لم تستهدف فقط حماس أو قطر، بل وضعت وساطة المجتمع الدولي ككل على المحك. قطر تجد نفسها اليوم ضحية ومتهما في الوقت نفسه، بينما واشنطن تعلن غضبها دون أن توقف إسرائيل، وأوروبا تلوّح بالعقوبات لكنها بلا نفوذ عملي على الأرض.
بهذا الشكل، تبتعد تسوية حرب غزة أكثر فأكثر. إسرائيل تريد فرض أمر واقع جديد، حماس تتمسك برفض أي تنازل من دون انسحاب كامل، قطر تحاول إنقاذ ما تبقى من دورها كوسيط، أوروبا تبحث عن نفوذ، والولايات المتحدة عالقة بين تحالفها مع إسرائيل وحرصها على دورها كراعٍ لأي عملية سلام.
أوراق مبعثرة وأفق غامض
الغارة على الدوحة كانت لحظة مفصلية في مسار الأزمة.. لم تكن مجرد ضربة عسكرية، بل رسالة سياسية غيّرت قواعد اللعبة.
أوروبا تضغط بالعقوبات، واشنطن تحاول ضبط التوازن بين الغضب والدعم، وقطر تواجه سؤالًا عن قدرتها على الاستمرار كوسيط. إسرائيل تسعى إلى فرض رؤيتها الخاصة، بينما حماس تحاول البقاء على الرغم من الاستهداف المباشر.