وكان لقاء الـ “240 دقيقة” الذي جمع الرئيسين الأميركي والصيني في 15 نوفمبر 2023، في سان فرانسيسكو، قد تُوِّج بإعلان الطرفين الاتفاق على التعاون في مكافحة المخدرات، واستئناف الاتصالات العسكرية رفيعة المستوى، وتوسيع التبادلات الشعبية.
موضوع غير قابل للنقاش
رغم أن الطرفين حددا خلال لقائهما أطراً، لتحسين العلاقات في عدة قضايا خلافية، كما حرصا على إشاعة جو من التعاون البناء، إلا أن كسر الفتور في العلاقات الأميركية الصينية، لن يشمل بأي شكل من الأشكال، “ملف الرقائق” الذي تعتبره أميركا موضوعاً غير قابل للنقاش، فبعد أيام قليلة على انتهاء القمة الأميركية الصينية، خرجت وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموندو لتؤكد أن بلادها لا يمكن أن تسمح للصين بالحصول على الرقائق المتطورة التي تشغّل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مشددة على ضرورة حرمان بكين من أحدث التقنيات الأميركية في هذا المجال، مهما كانت نتائج ذلك على الشركات الأميركية.
وقالت رايموندو إن تواصل أميركا مع الصين، يمكن أن يساعد في استقرار العلاقات بين البلدين، ولكن عندما يتعلق الأمر بمسائل الأمن القومي، فهذا خط أحمر، معتبرة موضوع الرقائق أكبر تهديد تواجهه أميركا على الإطلاق.
قرارات أشعلت فتيل “حرب الرقائق”
وتصاعدت حدة “العداء” بين أميركا والصين بكل ما يتعلّق بصناعة الرقائق منذ قرابة الـ 14 شهراً، ففي أكتوبر من عام 2022 فرضت الولايات المتحدة ضوابط صارمة، منعت بموجبها الشركات الأميركية من تصدير الرقائق “فائقة التطور” التي تُستخدم في تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى الشركات الصينية، وهذا القرار أشعل فتيل “حرب الرقائق” بين بكين وواشنطن، وقد استتبعته إدارة الرئيس بايدن بقرار آخر في شهر أكتوبر 2023، يمنع وصول الرقائق الأميركية “الأقل تقدماً” إلى الصين.
وتسيطر أميركا على أكثر من 95 بالمئة من السوق العالمي للرقائق الإلكترونية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي، وذلك عبر شركات مثل إنتل وAMD وإنفيديا اللاتي تمكنت من سحق جميع أشكال المنافسة في هذه الصناعة. وترى واشنطن أن منع شركاتها من بيع الصين أنواعا محددة من الرقائق، سيكون كفيلاً بتحطيم آمال بكين في التحول إلى قوة تكنولوجية عظمى، وخاصة فيما يتعلق بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
الصين ترد بالمعادن
والتصعيد الأميركي في “حرب الرقائق”، قابله تصعيد صيني مضاد، حيث عمدت بكين في شهر يوليو 2023، إلى تقييد صادرات معدنيْ الجاليوم والجرمانيوم من البلاد، وهما معدنان أساسيان في صناعة الرقائق والإلكترونيات، لتقوم الصين مجدداً في شهر أكتوبر 2023 بنقل “معركة الرقائق” إلى مستويات محتدمة جديدة، من خلال تقييد صادرات “الغرافيت” من البلاد، وهي مادة موصلة للحرارة والكهرباء، ومفيدة في صناعة المنتجات الإلكترونية، مثل الأقطاب الكهربائية والبطاريات.
ووفقاً لتحالف المواد الخام Critical Raw تنتج الصين 60 بالمئة من الجرمانيوم في العالم، و80 بالمئة من الجاليوم، وأكثر من 70 بالمئة من الغرافيت، ولذلك فإن تقييد صادرات هذه المعادن وربط عملية تصديرها إلى خارج الصين، بالحصول على ترخيص من الجهات الحكومية، أتى كرسالة تهدف إلى تذكير أميركا، بأن استمرارها في فرض المزيد من القيود، على وصول بكين إلى الرقائق المتطورة، ستكون له ارتدادات قاسية، خصوصاً أن الجرمانيوم والغاليوم، والغرافيت، باتت جزءاً لا يتجزأ من عالم صناعي كامل، يشمل تصنيع مختلف الأدوات الكهربائية وغيرها الكثير من المنتجات.
حرب لا مكان للصلح فيها
ويرى المراقبون أن “حرب الرقائق” التي تخاض بين أميركا والصين، هي حرب لا مكان فيها للصلح، فأميركا ستفعل المستحيل لمنع وصول أو تطوير الصين لرقائق متقدمة خاصة بها، خصوصاً بعد ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي قد تستفيد بكين منها، لتحقيق تقدم من الناحية العسكرية، وهو ما تعتبره أميركا خطاً أحمر لا يمكن السماح بحصوله، وهذا الأمر عبّرت عنه صراحة وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموندو عندما قالت منذ أيام، إن حماية الأمن القومي لأميركا، أهم من الإيرادات قصيرة الأجل، داعية الشركات الأميركية المنتجة للرقائق، إلى التكيّف مع هذه الأولويات التي تعني أنها ستخسر إيرادات.
ويقول خبير التحول الرقمي ربيع سعادة، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن “حرب الرقائق” التي تدور أحداثها بين الصين وأميركا، هي حرب استراتيجية بالنسبة للفريقين، فالرقائق الإلكترونية “فائقة القوة” التي تصممها الشركات الأميركية، والتي تدعم تقنية الذكاء الاصطناعي تعد حالياً العصب الحيوي لصناعات متعددة، وهذا ما حوّلها إلى سلعة استراتيجية بالنسبة للإدارة الأميركية، فأي دولة تتطلع لأن تلعب دورا حاسما في مستقبل العالم، عليها أن تسيطر على هذه السلعة، التي هي عبارة عن قطعة معدنية صغيرة مصنوعة من السيليكون.
لماذا حرمان الصين من الرقائق المتطورة؟
ويشرح سعادة أن أهمية الرقائق الإلكترونية كسلعة تتعلق بالأمن القومي الأميركي، مرده إلى ارتباط الرقائق بكل ركن من أركان الاقتصاد الحديث، فاليوم لا توجد صناعة أساسية في العالم، لا تدخل في عملية تشغيلها هذه الشرائح، التي من دونها لا تعمل الأجهزة الكهربائية والهواتف المحمولة والسيارات والطائرات وشبكات الاتصالات، ومراكز البيانات والحواسيب وأجهزة الإنتاج في المعامل، وأنظمة التسلح والطائرات والصواريخ والأسلحة النووية، ولذلك فإنه إذا أرادت أميركا المحافظة على تفوقها في جميع هذه المجالات، وخصوصاً في الناحية العسكرية، سيكون عليها حرمان الصين من حق الوصول إلى الرقائق الإلكترونية “فائقة القوة”، لتسمح لها فقط بالحصول على الرقائق القديمة، ما يجعل الصين متأخرة تكنولوجياً بنحو 8 إلى 10 سنوات عن أميركا.
التضحية بالأرباح الهائلة
وبحسب سعادة، فإنه مع ظهور الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي، وهو الذكاء الاصطناعي التوليدي، باتت أميركا تخشى أكثر من إمكانية وصول الرقائق المتطورة إلى أيدي الصين، بغية استخدامها في تطوير قدراتها العسكرية، بناءً على ما يوفره الذكاء الاصطناعي، من قدرات تعرّض الأمن القومي الأميركي لخطر كبير، ولذلك رأينا أن هناك تشديداً أميركياً للقيود في أكتوبر 2023 بما يحد من قدرة الصين على تحقيق اختراقات في هذا المجال، لافتاً إلى أن أميركا قررت التضحية بالأرباح الهائلة، التي من الممكن أن تحققها شركاتها من مبيعات الرقائق إلى الصين، التي تُعدّ مشتريا كبيرا لكل ما يتعلق بمنتجات أشباه الموصلات.
ويكشف سعادة أن أحدث الأرقام تظهر أن الصين استوردت 355.9 مليار قطعة من منتجات أشباه الموصلات، خلال أول 9 أشهر من 2023، بقيمة إجمالية وصلت إلى 252.9 مليار دولار أميركي، ما يدل على الحجم الهائل للإيرادات التي ستخسرها الشركات الأميركية من الصين في المستقبل، والذي سيكون ثمناً لتفوق أميركا في مختلف المجالات، فالصين لا تستطيع فعل الكثير دون الاعتماد على الرقائق الأميركية المتطورة.
تفاقم “حالة العداء” في 2024
من جهته يؤكد المطور في شؤون التكنولوجيا فادي حيمور، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن “حرب الرقائق” بين أميركا والصين، هي حرب لا مكان للصلح فيها ولن تتوقف مهما كانت هوية الرئيس الأميركي المقبل، متوقعاً تفاقم “حال العداء” بين البلدين بشأن هذا الموضوع خلال عام 2024، وداعياً إلى عدم وضع آمال كبيرة على قمة الرئيسين الصيني والأميركي، فهذا السيناريو حصل خلال عام 2022 عندما التقى رئيسا البلدين في مدينة بالي الإندونيسية وتوصلا إلى تفاهمات مهمة بشأن العلاقات الثنائية، إلا أن الحملة الأميركية اللاحقة على التكنولوجيا الصينية، تسببت في تدهور غير مسبوق في العلاقات وهو ما سيحصل أيضاً في 2024، فأميركا تعتبر أن الرقائق موضوع حياة أو موت بالنسبة لها.
وشبّه حيمور العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم بـ “قطار الأفعوانية”، الذي يترك المراقبين في حالة ترقب تثير الأعصاب، لافتاً إلى أن الشركات الأميركية لتصميم الرقائق، باتت متأكدة من استحالة وصول رقائقها المتطورة إلى السوق الصينية، ولذلك هي تحاول إنتاج رقائق لا تحتوي على تكنولوجيا فائقة التطور ويمكن بيعها للصين، ولكن الإدارة الأميركية، وعند علمها بهذا الموضوع، استدعت الشركات المنتجة لهذه الشرائح، للتحقق من الأمر، بسبب مخاوفها من أن تتمكن الصين من تحديث هذه الشرائح لتصبح فائقة التطور.
تبعات مالية مؤجلة
وشدد حيمور على أن ارتدادات قرار عدم وصول الرقائق المتطورة إلى السوق الصينية، ستظهر تبعاتها المالية على الشركات الأميركية في السنوات المقبلة وليس حالياً، فالاختراقات التي تحققها هذه الشركات حالياً، في مجال تطوير شرائح للذكاء الاصطناعي، تجعل أسهمها ترتفع بشكل غير مسبوق، في ظل حاجة شركات ضخمة مثل غوغل ومايكروسوفت وغيرها الكثير، إلى هذا النوع من الشرائح لتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، لافتاً إلى أن إنفيديا هي أكثر الشركات تأثراً، بقرار تقييد وصول الرقائق الأميركية إلى الصين، ولكن رغم ذلك، ارتفع سهمها بنسبة تفوق الـ 200 في المئة.
وجدد حيمور تأكيده على أنه لا سلام بين أميركا والصين في موضوع “حرب الرقائق”، وهذا الأمر من مصلحة واشنطن التي تتفوق على بكين في هذه الصناعة، لافتاً إلى أن الصين ومن خلال شركة هواوي، تمكنت من تقليص فارق تأخرها في صناعة الرقائق، إلى نحو 6 سنوات مقارنة بالصناعة الأميركية، وذلك مع تصنيعها في صيف 2023، لرقاقة تدعم تقنية 7 نانوميتر، معتبراً أن مسار تطوير الصين لصناعة الرقائق المحلية، هو الطريق الوحيد المتاح أمامها كي تنقذ اقتصادها وتحافظ على تقدمها في المجال التكنولوجي، إلا أن هذا الأمر سيحتاج لسنوات طويلة جداً من العمل.