ويعد الخطاب، الذي يأتي بعد أشهر من الحصار الاقتصادي للتنظيم على باماكو، تحولا استراتيجيا يعكس رغبة الجماعة في تقديم نفسها كفاعل سياسي داخل المشهد المالي.
لغة غير مسبوقة
أصدرت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” وثيقة غير مسبوقة في مالي، تتهم فيها الجيش المالي ومجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية بارتكاب “مجازر” ضد المدنيين، مع الدعوة لتحقيق دولي في هذه الانتهاكات.
وتضمن البيان دعوة لانتفاضة شعبية في باماكو، وإقامة “حكومة إسلامية”، إلى جانب رسالة مباشرة إلى تركيا بضرورة “الكف عن مساندة قتلة الأطفال والنساء والأبرياء من شعوب المنطقة”، في إشارة إلى تزويدها الجيش المالي بالطائرات المسيّرة.
وأكد التنظيم في بيانه “استمرار نهجه في مسالمة من سالمهم والكف عن من كف عنهم من أي طرف كان”، وهو ما يبرز محاولة رسم صورة جديدة للجماعة كفصيل قادر على التعامل السياسي مع القوى الداخلية والخارجية.
ويشير مراقبون إلى أن الجماعة باتت ترى نفسها طرفا رئيسيا في الصراع، و”سلطة بديلة” لها الحق في إصدار بيانات سياسية موجهة إلى الداخل والخارج، في خطوة تعكس تغيرا كبيرا في استراتيجيتها.
ويرى خبراء أن هذا التحول في خطاب الجماعة قد يمهد لمرحلة جديدة في الصراع المالي، حيث يسعى التنظيم إلى الانتقال من مرحلة العمل المسلح إلى مرحلة تقديم نفسه كفاعل سياسي يسعى لفرض شرعية جديدة، وهو ما قد يعيد رسم المشهد في البلاد بشكل كامل.
ترويج سياسي
يصف أستاذ العلوم السياسية بجامعة باماكو محمد أغ إسماعيل، بيان الجماعة بأنه “ترويج سياسي بامتياز”، موضحا أنها بدأت منذ العام الماضي في تغيير خطابها لاستغلال عواطف المواطنين وتقريب نفسها منهم، عبر الظهور بمظهر الجماعة السياسية لا المتشددة.
ويقول أغ إسماعيل لموقع “سكاي نيوز عربية”، إن الجماعة “تعمل مؤخرا على تحسين علاقاتها مع الداخل والخارج استعدادا للتفاوض السياسي”، مشيرا إلى أنها غيرت لون العلم من الأسود إلى الأبيض، وشرعت في التواصل والتجنيد من مختلف المكونات الإثنية في مالي.
ويضيف المحلل السياسي المالي أن “خطوات الجماعة تهدف إلى المشاركة في الحكم مستقبلا عبر خلق توترات مع النظام الحالي، والرهان على انتفاضة شعبية قد تؤدي إلى نظام جديد يقبل التفاوض معها”.
لكنه يؤكد أن “الشارع في باماكو يعارض الفكر المتطرف، مما يقلل من فرص نجاح هذا المسار”.
ويشير أغ إسماعيل إلى أن “المؤتمرات الوطنية التي عقدت في مالي، منذ عهد (رئيس الوزراء الأسبق) أبو بكر كيتا وحتى اليوم، أوصت نصيا بضرورة الحوار مع الإرهابيين المحليين، وعلى رأسهم إياد أغ غالي وأمادو كوفا”.
وتابع قائلا إن الجماعة “تهدف إلى المشاركة في السلطة، لكن ذلك يتوقف على فك الارتباط بتنظيم القاعدة بعد الحصول على ضمانات وطنية ودولية، والتفاوض مع باماكو وحلفائها من أجل قبولها كطرف مسالم يمكن التعامل معه، ثم القبول ببعض مطالبها كالاعتراف بدور القضاء الإسلامي في بعض المناطق”.
رسائل لتركيا والفاعلين الإقليميين
وفي خطوة لافتة، وجهت الجماعة رسالة حادة إلى تركيا، مطالبة إياها بـ”الكف عن مساندة قتلة الأطفال والنساء والأبرياء”، في انتقاد مباشر لطائرات “بيرقدار” المسيّرة التي حصل عليها الجيش المالي.
وتعد تركيا أحد موردي المسيّرات القتالية في إفريقيا، وتمتلك مالي حاليا 8 طائرات من طراز “بيرقدار”، إضافة إلى طائرات “أكينجي” التي تسلمتها في ديسمبر من العام الماضي.
ويرى المحلل السياسي المالي أن “هذه الرسالة تهدف إلى خلخلة حلفاء باماكو، في ظل استمرار الحصار الاقتصادي على العاصمة، خاصة أن المسيّرات التركية لعبت دورا محوريا في العمليات العسكرية الأخيرة ضد الجماعات المتشددة”.
وفي السياق ذاته، يقول المحلل التوغولي المتخصص في شؤون إفريقيا محمد مادي غاباكتي لموقع “سكاي نيوز عربية”، إن بيان التنظيم “لا يمثل مجرد إدانة للعمليات العسكرية في المنطقة، بل يشكل تحولا جذريا في استراتيجية التنظيم الذي بات يطرح نفسه بديلا سياسيا للسلطة القائمة، وطرفا رئيسيا في الصراع المتصاعد الذي يهدد بتغيير خريطة السلطة في مالي”.
ويشير غاباكتي إلى أن “التنظيم بات يوجه رسائل سياسية واضحة إقليمية ودولية، مفادها أنه قادر على لعب دور السلطة البديلة إذا أُتيح له ذلك”.
ويضيف أن الجماعة “تسعى إلى توسيع تحالفاتها داخل مالي، واستمالة معارضي النظام الحالي، عبر تقديم نفسها كبديل قادر على تطبيق الشريعة الإسلامية، وتحقيق الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة”.


