الأرباح تتصاعد، والتوقعات تتجاوز تقديرات وول ستريت، والسباق نحو تعزيز المكانة في عالم النماذج الضخمة بات العنوان الأبرز للعام.
لكن رغم هذا الازدهار المالي الهائل، تشهد الصناعة مفارقة لافتة: موجة تسريح هي الأكبر منذ سنوات. فبينما ترتفع الإيرادات وتشتد المنافسة على بناء منظومات ذكاء اصطناعي أكثر قوة، تواصل الشركات شطب الوظائف بوتيرة متنامية، ما يعكس اتجاهًا هيكليًا أعمق من مجرد تصحيح مرحلي. فالتكنولوجيا التي تُصمَّم لرفع الإنتاجية باتت تبتلع وظائف بالكامل داخل الشركات نفسها، قبل أن تغيّر شكل أسواق العمل حولها.
يجمع الاقتصاديون والخبراء على أن هذه التحولات ليست أزمة، بل إعادة تصميم شاملة لطبيعة العمل في قطاع التكنولوجيا. فالشركات تعيد هيكلة نفسها حول ذكاء اصطناعي يُفترض أن يقود المرحلة المقبلة من النمو، مستبدلة آلاف الوظائف التقليدية بعدد محدود من أصحاب المهارات فائقة التخصص. هكذا تتقدّم الصناعة نحو نموذج أقل اعتمادًا على العمالة وأكثر اعتمادًا على التكنولوجيا، في تحول يُرجّح أن يمتد أثره إلى قطاعات الاقتصاد كافة.
طفرة ومفارقة
في السياق، يشير تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” إلى أن:
- وادي السيليكون تشهد طفرة غير مسبوقة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يتم ضخ مليارات الدولارات في تطوير التكنولوجيا.أيقونة الذكاء الاصطناعي.
- تشهد الإيرادات ارتفاعًا ملحوظًا، حيث تجاوزت شركات التكنولوجيا الكبرى توقعات وول ستريت في الربع الأخير. وأعلنت عن خطط لاستثمار ما يصل إلى 375 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي هذا العام، في إطار توسيع نطاق مراكز البيانات التي تُشغّل برامجها.
- لكن على الرغم من ارتفاع الإيرادات والاستثمارات القياسية في الذكاء الاصطناعي، تواصل الشركات تقليص الوظائف.
أعلنت شركات التكنولوجيا عن تسريح أكثر من 141 ألف موظف حتى الآن هذا العام، وفقاً لشركة “تشالنغر، جراي، وكريسماس” المتخصصة في التوظيف الخارجي، بزيادة قدرها 17 بالمئة عن الفترة نفسها من العام الماضي.
في العامين الماضيين، تقلصت القوى العاملة في قطاع التكنولوجيا على مستوى الولايات المتحدة بنحو 3 بالمئة سنوياً، وسجلت كاليفورنيا انخفاضاً أكبر بكثير بنسبة 19 بالمئة، وفقًا لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي.
ووفق التقرير، يقول الاقتصاديون والمحللون إن الشركات تُدفع لإعادة النظر في قواها العاملة استعداداً لعصر قد يُعزز فيه الذكاء الاصطناعي إنتاجية الموظفين ويُنشئ هياكل تُساعدهم على التكيّف بشكل أسرع.
كما أن ما بدأ كتكاليف وظائف ما بعد الجائحة لا يزال مستمرًا، إذ يواجه الرؤساء التنفيذيون ضغوطًا للحفاظ على عدد قليل من الموظفين – وهو اتجاه قد يُعيد تشكيل العمل.
وتُعتبر شركات التكنولوجيا الكبرى رائدةً في مجال الابتكار، وقد تُشكّل تحركاتها نماذجَ نجاحٍ تُحتذى بها في قطاعاتٍ أخرى. ويقول مارك مورو، الزميل البارز في معهد بروكينغز، إن قطاع التكنولوجيا يحظى بالمتابعة لكونه الأنسب لتجربة الذكاء الاصطناعي وإمكاناته في إحداث نقلة نوعية في الأعمال.
ويضيف: “قد يكون هذا بمثابة إشارة إلى كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على القطاعات الأخرى”.
فترات ازدهار
من جانبه، يقول أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، د. حسين العمري:
- رغم أن قطاع التكنولوجيا الأميركي يعيش واحدة من أكثر فترات الازدهار المالي في تاريخه، سواء من حيث الأرباح أو تدفق الاستثمارات الضخم في الذكاء الاصطناعي، إلا أنّ الشركات الكبرى تواصل تقليص الوظائف بوتيرة متزايدة.
- هذا التناقض الظاهري يعبّر في الحقيقة عن تحوّل بنيوي عميق داخل الصناعة، وليس عن أزمة مالية أو تباطؤ اقتصادي.
ويضيف: شركات التكنولوجيا تعيد هيكلة نفسها لتصبح شركات ذكاء اصطناعي قبل أي شيء آخر، فالطلب اليوم ليس على آلاف الموظفين في الأقسام التقليدية، بل على عدد محدود من المهندسين ذوي المهارات فائقة التخصص في النماذج الضخمة، والهندسة السحابية، وتصميم الرقائق، وعلم البيانات. هذا يعني أن الشركات تستبدل الوظائف الواسعة منخفضة القيمة بوظائف نوعية عالية القيمة، ما يخلق فجوة عددية كبيرة.
ويشدد على أن الشركات نفسها تستخدم الذكاء الاصطناعي لرفع الإنتاجية وخفض التكاليف. مهام مثل البرمجة الروتينية، خدمة العملاء، إدارة المحتوى، والتحليل التشغيلي أصبحت مؤتمتة جزئيًا وبالتالي، فإن الذكاء الاصطناعي يبتلع الوظائف داخل الشركات نفسها قبل أن يبتلعها في السوق الخارجية.
وفي سياق متصل، يوضح العمري أنه رغم ارتفاع الإيرادات، فإن الشركات تواجه ضغطاً كبيراً من المستثمرين لتحقيق هوامش ربح أعلى، خصوصاً مع الإنفاق المهول على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي (مراكز بيانات، رقائق، عمليات تدريب مكلفة). وهذا يدفع الإدارات إلى تقليص أي قسم لا يساهم مباشرة في نمو الذكاء الاصطناعي.
ويلفت إلى أنه من 2020 إلى 2022 وظّفت الشركات أكثر من حاجتها بسبب الطفرة الرقمية أثناء الجائحة. الآن، بعد عودة الحياة لطبيعتها، تجري الشركات “تصحيح مسار” لتقليص الفوائض التي لم تعد ضرورية.
كما يقول إن شركات مثل ميتا، أمازون، غوغل ومايكروسوفت لم تعد تحتفظ بعشرات المشاريع التجريبية. أصبحت تركّز على عدد صغير من الرهانات الاستراتيجية (الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، الأجهزة المتقدمة). هذا ينعكس مباشرة على تسريح فرق كاملة من المشاريع غير المربحة.
ومن ثم “نستطيع أن نقول إن ما يحدث اليوم ليس تباطؤًا في قطاع التكنولوجيا، بل إعادة هندسة كاملة له. الصناعة تتحول من نموذج كثيف العمالة إلى نموذج كثيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهذا التحول بطبيعته يقلص عدد الوظائف التقليدية، حتى لو كانت الأرباح في أعلى مستوياتها”، وفق العمري.
100 ألف وظيفة
في السياق، يشير تقرير لـ “إيكونوميك تايمز” إلى أن:
- من خلال تسريحات الموظفين، تُخفّض شركات التكنولوجيا الكبرى حول العالم تكاليفها.
- يسفر ذلك عن فقدان أعداد هائلة من الوظائف.
- تُخفّض شركات مثل أمازون وإنتل وتاتا للخدمات الاستشارية أعداد موظفيها بشكل كبير.
- تُعزى هذه التسريحات إلى التطور التكنولوجي، وخاصةً الذكاء الاصطناعي، وتباطؤ النمو الاقتصادي.
- تُعيد العديد من الشركات تخصيص مواردها لتطوير الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، مما يُؤثر على قطاعات مُختلفة عالمياً.
نموذج جديد
إلى ذلك، يوضح خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي بجامعة سان هوزه الحكومية في كاليفورنيا، د. أحمد بانافع، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- شركات التكنولوجيا انتقلت خلال السنوات الأخيرة إلى نموذج يعتمد على الأتمتة والذكاء الاصطناعي بدل الاعتماد على فرق عمل بشرية ضخمة. فمهام كانت تتطلب مئات الموظفين تُدار اليوم عبر منصّات ذكية بتكلفة أقل وكفاءة أعلى.
- “الصناعة تتوسع، لكن حاجتها للعنصر البشري تتقلص”، على حد وصفه.
- مرحلة “النمو المفرط” خلال الجائحة تركت الشركات أمام ضرورة إعادة ضبط الإنفاق لإرضاء المستثمرين في وول ستريت.
- “التسريح لم يعد مرتبطًا بالأزمات، بل أصبح أداة دائمة لإدارة التكاليف والحفاظ على الهوامش الربحية.”
- الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي لا تخلق وظائف جديدة بالوتيرة ذاتها، بل تستبدل القديمة، حيث أصبحت الأنظمة الذكية قادرة على تنفيذ مهام خدمة العملاء، كتابة المحتوى، تحليل البيانات، البرمجة الأولية، والتصميم، بسرعة تفوق العنصر البشري.
- “الأتمتة تتقدم أسرع من قدرة سوق العمل على خلق وظائف بديلة”.
ويؤكد بانافع أن انتقال الصناعة نحو منتجات الذكاء الاصطناعي أدى إلى تراجع أهمية الأقسام التقليدية، إذ أصبحت:
- الحملات التسويقية قائمة على أدوات AI
- تطوير البرمجيات يعتمد على مبرمجين آليين
- الدعم الفني يدار عبر روبوتات محادثة
- التحليل يتم عبر نماذج تعلم عميق
وبالتالي الوظائف المتبقية قليلة لكنها أكثر تخصصًا.


