ويُنظر للعلاقة بين القوتين الأكبر في العالم بمنطق الربح والخسارة التجارية، وكذلك كاختبار لقدرة كل طرف على التعايش مع الآخر في ظل منافسة تكنولوجية وجيوسياسية متسارعة.
ورغم تبادل الرسوم والإجراءات العقابية، يدرك البلدان أن الانفصال الكامل بين اقتصاديهما بات مكلفاً إلى حدٍّ لا يُحتمل، وأن الحفاظ على درجة من التوازن يمثل الخيار الأكثر واقعية لكليهما.
لكن هذا التوازن يظل هشّاً، إذ يتأرجح بين مصالح السوق وضغوط السياسة، وبين الرغبة في التعاون والحاجة إلى المواجهة.
وفي الوقت الذي يحاول فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تهدئة التوترات ظاهرياً، بينما يواصل الضغط على الصين من وراء الكواليس، تسعى بكين إلى ضبط الإيقاع وتفادي التصعيد، في رهان جديد على أن الحفاظ على قنوات الحوار قد يكون السبيل الوحيد لإبقاء المنافسة تحت السيطرة دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
موازنة صعبة
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن:
- الرئيس ترامب يحاول تهدئة التوترات مع الصين علناً لتهدئة الأسواق بينما يواصل الضغط على بكين سراً، وهو ما يمثل موازنة صعبة تراقبها وول ستريت عن كثب.
- بعد تهديده بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100 بالمئة على الواردات الصينية اعتباراً من الأول من نوفمبر، تحدث ترامب في الأيام الأخيرة مع كبار المسؤولين، بما في ذلك وزير الخزانة سكوت بيسنت، بشأن إرسال رسالة إلى العالم مفادها أن الولايات المتحدة تريد تهدئة التوترات التجارية مع الصين، وفقًا لأشخاص مطلعين على الأمر.
- جاء تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 بالمئة يوم الجمعة الماضي بعد أن تحركت بكين لفرض قيود على تصدير المعادن الأرضية النادرة. وأدى تجدد الصراع إلى موجة بيع واسعة في السوق الأميركية، ألمح خلالها الرئيس إلى أنه قد لا يلتقي بالزعيم الصيني شي جين بينغ.
والآن تأتي رغبة ترامب في تهدئة التوترات في وقت أعربت فيه الدولتان سراً -بحسب التقرير- عن رغبتهما في تهدئة التوترات، على الأقل في الوقت الحالي، في نزاعهما التجاري الحالي، وهو الأحدث في سلسلة من التصعيد والتهدئة المستمرة منذ بداية ولاية ترامب الثانية.
في هذه الحالة، يحرص الصينيون على إنقاذ قمة متوقعة بين ترامب وشي في وقت لاحق من هذا الشهر، بينما يسعى فريق ترامب إلى كبح الخسائر في سوق الأسهم.
كان مسؤولو الإدارة الأميركية يتحدثون لأسابيع عن استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات لمواجهة الصين عند الحاجة، وفقاً لأشخاص مطلعين على المناقشات. وناقش المسؤولون سابقاً استخدام تدابير مختلفة لحماية البنية التحتية الأميركية من التدخل الصيني، والحد بشكل أكبر من قدرة الشركات الصينية على الاستثمار في الولايات المتحدة.
- كان المسؤولون يدرسون إمكانية استخدام العقوبات وضوابط التصدير كوسيلة لمنع وصول الصين إلى الأسواق الأميركية.
- شملت الأفكار المطروحة داخل الإدارة إمكانية استهداف الأسهم الصينية في البورصات الأميركية من خلال تعزيز عملية مراجعة الحسابات المطلوبة لتلك الشركات.
- كما درسوا اتخاذ إجراءات تنفيذية لتعزيز البنية التحتية الأميركية ضد التدخلات الصينية، ومعاقبة الشركات الصينية لتورطها في أعمال نفطية مع روسيا، أو زيادة تقييد قدرة الشركات الصينية على الاستثمار في الولايات المتحدة.
- في النهاية، اتفق ترامب وبيسنت ومستشارون كبار آخرون الأسبوع الماضي على إعطاء الأولوية لاستقرار الأسواق العالمية، مع محاولة تجنب أي تصعيد فوري مع الصين.
- خفف الرئيس من موقفه بشأن لقاء شي بعد أن ألمح في البداية إلى إلغاء القمة، وكتب بنبرة أكثر إيجابية على موقع “تروث سوشيال” خلال عطلة نهاية الأسبوع. وجاء في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي يوم الأحد: “لا تقلقوا بشأن الصين! كل شيء سيكون على ما يرام”، وأضاف أن إدارة ترامب تريد مساعدة الصين.
تحديات
من جانبه، يقول خبير العلاقات الدولية والاقتصادية محمد الخفاجي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن تحقيق توازن دقيق ومستدام في التجارة بين الولايات المتحدة والصين يُعد أمراً بالغ الصعوبة؛ نظراً لأن الخلل التجاري الهيكلي بين البلدين متجذر وتفاقمه العوامل الجيوسياسية والتنافس التكنولوجي المتصاعد.
ويتابع الخفاجي موضحاً أن عوامل التحدي الرئيسية متعددة، ويمكن تلخيصها في ثلاث نقاط أساسية:
- المنافسة التكنولوجية والجيوسياسية: تجاوزت المواجهة بين واشنطن وبكين مجرد الميزان التجاري، لتشمل الصراع على السيطرة على مستقبل التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والمركبات الكهربائية، حيث تنظر واشنطن إلى الصين بوصفها منافساً استراتيجياً شاملاً.
- ثانياً: السياسات الحمائية والرسوم الجمركية: أدت الحروب التجارية إلى زيادة التكاليف وعدم اليقين (..) كما أسهمت في تحويل سلاسل التوريد إلى دول أخرى بدلاً من إعادتها إلى الولايات المتحدة.
- ثالثاً: العوامل الاقتصادية الكلية المحلية: يشير صندوق النقد الدولي إلى أن الفائض التجاري الصيني والعجز الأميركي يعكسان في جوهرهما قوى اقتصادية داخلية في كل من البلدين، ما يجعل الاعتماد على الرسوم الجمركية كأداة تصحيح غير فعّال على المدى الطويل.
ويؤكد الخفاجي أن تحقيق التوازن التجاري يتطلب ما هو أبعد من اتفاقيات لخفض الرسوم أو ضبطها، بل يستلزم إصلاحات هيكلية في الاقتصاد الصيني لتعزيز الاستهلاك المحلي بدلاً من الاعتماد المفرط على الصادرات، إلى جانب جهود أميركية لزيادة المدخرات وتقليص العجز المالي.
ويختم حديثه قائلاً إن الوصول إلى توازن تجاري حقيقي بين القوتين يظل هدفاً طموحاً بعيد المنال، ما لم تتوصل واشنطن وبكين إلى إطار شامل يأخذ في الاعتبار المصالح الاستراتيجية المشتركة والنمو الاقتصادي المستدام لكلا البلدين.
رهان الصين
وإلى ذلك، يشير تقرير لمجلة “الإيكونوميست” إلى أن “الصين تحاول إثارة الصدمة والرعب لدى دونالد ترامب”، لافتاً إلى رهان الرئيس الصيني شي جين بينغ على أن التصعيد الدرامي هو السبيل للفوز في الحرب التجارية.
وفي 13 أكتوبر الجاري ، صرّح وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، لصحيفة فاينانشال تايمز بأن الصين، المُنزعجة من ضعف نموها، تريد “أن تُلحق الضرر بالجميع”. وقد كان هذا تفسيره لضوابط التصدير التي أعلنتها الصين في 9 أكتوبر، والتي منحت نفسها صلاحيات قانونية جديدة لخنق سلاسل توريد المعادن الأرضية النادرة التي تُنتجها الصين والمنتجات التي تحتوي ولو على آثار ضئيلة منها، بما في ذلك المغناطيسات الدائمة المستخدمة في كل شيء من السيارات إلى الطائرات المقاتلة. ولزيادة الأزمة، أعلنت السلطات الصينية عن قواعد تُمكّنها من تقييد صادرات البطاريات عالية الأداء، بالإضافة إلى المبيعات الخارجية للتقنيات اللازمة لمعالجة المعادن الأرضية النادرة أو تصنيع البطاريات خارج الصين.
التنافس دون انفصال
بدورها، تؤكد الكاتبة الصحافية الصينية، سعاد ياي شين هوا، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- تحقيق التوازن في التجارة بين الصين والولايات المتحدة لا يعني إزالة جميع الخلافات، بل إيجاد نقطة ارتكاز ديناميكية قائمة على مبدأ “التنافس دون الانفصال، والتعاون لتحقيق المنفعة المتبادلة”.
- هذا التوازن المحدود يمثل الخيار الواقعي للطرفين لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية وتجنّب المواجهة الشاملة.
وتوضح أن حرب الرسوم الجمركية بين البلدين تحولت في الفترات الأخيرة من مواجهة شاملة إلى تهدئة جزئية، وهو ما يعكس نوعاً من التوازن بين ضغوط التضخم في الولايات المتحدة وقدرة الصين على الرد بالمثل.
وتشير إلى أن المجال التكنولوجي أصبح ساحة للتوازن المعقّد بين “الفصل في الجوهر والتعاون في الأطراف”، حيث تشدّد واشنطن القيود على تصدير الرقائق المتقدمة في حين تسرّع بكين جهودها لتحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع أشباه الموصلات، بينما يستمر التعاون في الإلكترونيات الاستهلاكية والرقائق التجارية. وتضيف أن هيمنة الصين على سلسلة توريد المعادن النادرة واعتماد الولايات المتحدة عليها أصبحت تمثل نقطة توازن جديدة بين القوتين.
وتتابع أن هذا التوازن يبقى هشّاً وغير مستقر، مشيرة إلى أن تصاعد النزعة المتشددة تجاه الصين داخل السياسة الأميركية، والتوتر في مضيق تايوان، والتنافس التكنولوجي المتسارع كلها عوامل قد تهدد التفاهم القائم بين الجانبين. ومع ذلك، تؤكد أن الترابط العميق للاقتصاد العالمي يجعل الانفصال الكامل بين القوتين مكلفاً للغاية، إذ لا يمكن للشركات الأميركية الاستغناء عن السوق الصينية، كما تحتاج الصين إلى التكنولوجيا والتعاون الخارجي لتعزيز نموها.
وتوضح أن قضايا المناخ تمثل مجالاً واعداً للتكامل بين الجانبين، إذ تمتلك الصين والولايات المتحدة عناصر قوة متكاملة في الطاقة الشمسية وتخزين الطاقة، معتبرة أن تعزيز التعاون في هذه الصناعات الخضراء يمكن أن يمنح العلاقات التجارية عنصرًا من الاستقرار والمرونة.
وتختم الكاتبة الصحافية الصينية تصريحها بالتأكيد على أن التوازن التجاري بين الصين والولايات المتحدة ليس حالة ثابتة، بل عملية مستمرة تقوم على البحث عن القواسم المشتركة مع احترام الاختلافات، مشددة على أهمية تجاوز التفكير الصفري وإدارة الخلافات بشكل منضبط، وتعميق التعاون في المجالات ذات المصالح المتبادلة، ليصبح التبادل التجاري صخرة استقرار للعلاقات الثنائية، وهو ما يتطلب حكمة استراتيجية واستنادًا إلى قوى السوق لتجنّب انقسام الاقتصاد العالمي.