هذا التبادل الفريد لا يقتصر على تعلم مهارات جديدة، بل يفتح الباب أمام أسئلة جوهرية حول إعادة تشكيل بيئة العمل، فهل أصبح الجيل “زد” بالفعل مهندسي المستقبل في مكاتب اليوم؟ وهل يعيد الطلاب تعليم أساتذتهم، ليقلب الذكاء الاصطناعي هرم السلطة في مكان العمل؟
وكشف تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” واطلعت عليه “سكاي نيوز عربية”، أن الجيل “زد” لا يكتفي بتبني تقنيات الذكاء الاصطناعي، بل أصبح قوة دافعة لانتشارها داخل بيئة العمل. ووفقاً لاستطلاع أجرته شركة “إنترناشيونال وورك بليس غروب” وشمل أكثر من 2000 محترف في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فإن ما يقرب من ثلثي الموظفين الشباب يشاركون بنشاط في مساعدة زملائهم الأكبر سناً على تعلم كيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
ويتخذ هذا الدعم أشكالاً متنوعة، بدءاً من التوجيه العملي وصولاً إلى تقديم نصائح لدمج التكنولوجيا في سير العمل اليومي، بحسب ما أفاد مارك ديكسون، المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة.
سد الفجوة بين الأجيال
هذا التبادل المعرفي يعيد تشكيل التعاون بين الأجيال، حيث أشار نصف الموظفين المستطلعة آراؤهم إلى أن الذكاء الاصطناعي يساهم في سد الفجوات بين الأجيال. وأظهر التقرير أن أربعة من كل خمسة مدراء كبار اعتبروا أن هذه الشراكة مع الموظفين الأصغر سناً تسمح لهم بالتركيز على “المهام ذات القيمة الأعلى”، في حين أرجع 82 بالمئة من المدراء الفضل لهذه الابتكارات في فتح فرص عمل جديدة.
ويؤكد ديكسون أن هذا التبادل المتبادل لا يسد الفجوات بين الأجيال فحسب، بل يزيل أيضاً التراتبيات التقليدية في مكان العمل.
وتكمن أهمية هذه الظاهرة في تأثيرها المباشر على الكفاءة والإنتاجية. فمن بين 2016 موظفاً شملهم الاستطلاع، أفاد 86 بالمئة بأن الذكاء الاصطناعي جعلهم أكثر كفاءة، بينما يعتقد 76 بالمئة أنه يساعد في حياتهم المهنية، وترتفع النسبة إلى 87 بالمئة بين المشاركين من الجيل “زد”.
كما أشارت البيانات إلى أن التكنولوجيا توفر على الموظفين متوسط 55 دقيقة يومياً. وقد أصبحت هذه التقنية حاسمة بالنسبة للفرق الهجينة، حيث قال 69 بالمئة من العمال الهجينين إنها تسهل العمل الجماعي عبر المواقع المختلفة. ومن بين المهام الشائعة التي يتم استخدام الذكاء الاصطناعي فيها: صياغة رسائل البريد الإلكتروني، وتدوين ملاحظات الاجتماعات، وتنظيم الملفات، وإدخال البيانات.
الجيل زد: أطفال الإنترنت الحقيقيون
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” يعرف عاصم جلال استشاري العلوم الادارية وتكنولوجيا المعلومات في “G&K” الجيل زد بأنه الجيل الذي وُلد بعد انتشار الإنترنت على نطاق واسع، تحديداً منذ أواخر التسعينيات وحتى أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة. هذا الجيل نشأ في عالم رقمي متصل، حيث كانت التكنولوجيا والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية منذ الطفولة المبكرة.
وأضاف: “في مكان العمل، ينعكس هذا التكوين الرقمي في قدرة هذا الجيل الاستثنائية على تبني التقنيات الجديدة بسرعة مذهلة، بما في ذلك أدوات الذكاء الاصطناعي التي يتعاملون معها بطلاقة طبيعية لا يمتلكها الأجيال السابقة.
ثورة الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل
وأوضح جلال أنه مع دخول الذكاء الاصطناعي كقوة محورية في سوق العمل، تتجه المؤسسات نحو تغيير جذري في طبيعة الوظائف وآليات الإنتاج. وقال: “ستشهد السنوات القادمة أتمتة المهام الروتينية والتحليلية، مما يفسح المجال أمام الأدوار الإبداعية والاستراتيجية التي تتطلب الذكاء العاطفي والتفكير النقدي. هذا التحول سيعيد تشكيل مفهوم التعلم المستمر والتأهيل المهني، حيث ستصبح القدرة على التكيف مع الأدوات الذكية والعمل جنباً إلى جنب مع الآلة مهارة أساسية لا غنى عنها للنجاح المهني في المستقبل”.
التكامل بين الأجيال واللمسة الإنسانية
وعلى الرغم من الثورة التقنية المتسارعة، تبقى الحاجة ماسة لمهارات جميع الأجيال في مكان العمل المستقبلي، وليس فقط القدرات التكنولوجية، وفقاً لاستشاري العلوم الادارية وتكنولوجيا المعلومات في “G&K”، الذي أشار إلى أن خبرة الأجيال الأكبر سناً ومهاراتهم في التواصل والقيادة والحكمة المكتسبة من التجربة تشكل رصيداً ثميناً لا يمكن للآلات أن تحل محله.
واختتم بقوله: “في النهاية، تبقى البصيرة الإنسانية والقدرة على اتخاذ القرارات الأخلاقية والفهم العميق للسياق الاجتماعي والثقافي هي العناصر المحورية التي تضمن نجاح التحول الرقمي وتحافظ على الطابع الإنساني في عالم العمل”.
انقلاب واسع في الهياكل الهرمية للسلطة مستبعد على المدى القريب
من جانبه، قال إيهاب الزلاقي خبير تكنولوجيا المعلومات في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “تؤثر التغيرات التكنولوجية السريعة فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي على جميع الأعمال والمجالات، كما تؤثر أيضاً على الطريقة التي يتم بها إنجاز الأعمال اليومية. وفي الوقت الحالي، يحقق الموظفون الأكثر معرفة بهذه الأدوات، وهم في الأغلب الموظفون الأصغر سنّاً كثير من المكاسب، كما يضيّق ذلك الفجوة المعرفية بين المبتدئين والمحترفين، مما يؤثر على بعض مستويات الإدارة الوسطى”.
ولكن على المدى القريب لا يمكن الحديث عن انقلاب واسع في الهياكل الهرمية للسلطة في الشركات والمؤسسات، وتظهر البيانات الحديثة في أسواق العمل ارتفاعات في الإنتاجية لدى الموظفين الجدد، وزيادات كبيرة في الأجور المرتبطة بأصحاب المهارات في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وهي عناصر تصب غالباً في مصلحة الشباب، بحسب تعبيره.
وأضاف الزلاقي: “تدعم الكثير من المؤشرات الحديثة هذا الرأي؛ إذ يقول مؤشر مايكروسوفت العالمي لاتجاهات العمل لعام 2024 إن 75 بالمئة من العاملين في مجال المعرفة يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي، وأن هذا الاستخدام يتم على مستوى الأفراد دون انتظار للحلول الشاملة من الشركات، وأن هذا يحدث مع مختلف الفئات العمرية ليس الشباب فقط”.
بينما ت العالم نيوزمؤسسة ديلويت في المملكة المتحدة أن نحو 30 بالمئة من العاملين يستخدمون الذكاء الاصطناعي في معظم الأوقات. وتوقعت دراسة حديثة أجرتها جامعة أكسفورد أن يعمل الذكاء الاصطناعي على تقليل فجوة الخبرة بين العاملين، حيث تحصل الأجيال الشابة سريعاً على خبرات كانت تحتاج سنوات للحصول عليها.
تغييرات في التراتبية الوظيفية
ومع كل هذه المميزات التي تحققها الأجيال الأصغر من خلال إتقان الذكاء الاصطناعي، يشير خبير تكنولوجيا المعلومات إلى أن دراسات السوق لا تتوقع أن يحدث انقلاب كامل في هياكل السلطة الوظيفية. ربما تحدث بعض التغييرات بطبيعة الحال في شكل الوظائف والتراتبية الوظيفية، ولكن العناصر الأخرى غير الفنية في العمل مثل الإدارة والتنسيق والحوكمة وثقة العملاء والمساءلة ما تزال ترسخ أدوار القيادات التقليدية.
وأضاف: : وبالتالي فإن الحديث عن انقلاب واسع النطاق في أشكال الإدارة الهرمية في الأعمال والشركات ما يزال أمراً بعيد التحقق، ولكن ربما يحتاج الأمر إلى إعادة التفكير في طرق وأشكال وأساليب مستوى الإدارة الوسطى، والتي تبدو وفقاً للأرقام والاتجاهات الحديثة الأكثر عرضة لإعادة الهيكلة”.
واختتم حديثه بقوله: “إن الذكاء الاصطناعي يعيد بالفعل تشكيل بيئات العمل في مختلف المجالات، والمستفيد الأكبر هم الموظفون الأصغر سنّاً والأكثر دراية بالأدوات التقنية، وهو في الوقت نفسه يُضعِف مناطق إدارية تقليدية كانت مستقرة، لكن الحديث عن انقلاب كامل في هرم السلطة الوظيفية لصالح الأجيال الشابة ما يزال مسألة غير مرجحة حالياً”.