ورغم أن تأسيس المنظمة قد يبدو اليوم وكأنه كان أمرًا حتميًا، إلا أن الواقع آنذاك كان مختلفًا تمامًا. فقد جاء كل من المؤسسين إلى بغداد بأهداف وتطلعات مختلفة، لكنهم أدركوا أن المصالح المشتركة تفوق أي خلافات، وأن التعاون هو السبيل لتحقيق السيادة على مواردهم الطبيعية وثرواتهم النفطية.
في تلك الحقبة، كانت اقتصادات هذه الدول تعتمد كليًا على النفط، بينما كانت الصناعة النفطية تحت سيطرة شركات أجنبية كبرى، لا تتيح للدول المنتجة أي سلطة حقيقية على مواردها أو أسعار بيعها في الأسواق العالمية. ومن هنا وُلدت أوبك كتتويج للحوار والتعاون والإصرار على السيادة الوطنية، بهدف تأمين استقرار السوق وضمان حقوق المنتجين والمستهلكين على حد سواء.
وقد عبّرت أولى قرارات المنظمة في اجتماع بغداد عن هذا التوجه بوضوح، حيث نصّت على أن الهدف الرئيسي لأوبك هو “توحيد السياسات البترولية للدول الأعضاء وتحديد أفضل السبل لحماية مصالحها الفردية والجماعية”، مع مراعاة “مصالح الدول المنتجة والمستهلكة، وضمان دخل مستقر للمنتجين، وإمدادات فعالة ومنتظمة للمستهلكين، وعائد عادل للمستثمرين في الصناعة البترولية”.
وسرعان ما بدأت الدول المؤسسة، ومعها الدول التي انضمت لاحقًا في الستينيات، باتخاذ خطوات إضافية لتعزيز مكانتها في مواجهة الشركات الكبرى، من بينها “البيان التوضيحي للسياسة البترولية في الدول الأعضاء” عام 1968، الذي مهّد لاتفاقيات مفصلية في السبعينيات مثل اتفاقيات طهران وطرابلس وجنيف الأولى والثانية، والتي ساهمت في إعادة تشكيل الصناعة النفطية بشكل أكثر عدالة.
ومثل أي منظمة دولية، واجهت أوبك تحديات وتقلبات على مدار العقود، وتعرضت لانتقادات كثيرة، بل وتنبأ البعض بزوالها في أكثر من مناسبة. لكن الواقع أثبت أن المنظمة لا تزال تلعب دورًا محوريًا في استقرار الأسواق العالمية.
وقد أكدت دراستان نُشرتا عام 2021 أهمية أوبك للاقتصاد العالمي. الأولى صادرة عن مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية (كابسارك)، بعنوان “قيمة الطاقة الاحتياطية لأوبك في السوق النفطية والاقتصاد العالمي”، وقدّرت قيمة الطاقة الاحتياطية لأوبك بـ193.1 مليار دولار سنويًا (وفقًا لأسعار عام 2019). أما الدراسة الثانية، من معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، فقد تناولت تأثير وجود أوبك من عام 1990 إلى 2018، وأظهرت أن غياب الطاقة الاحتياطية – خصوصًا من السعودية – كان سيؤدي إلى صدمات عرض أكبر وأكثر استدامة، مع خسائر في الناتج المحلي الإجمالي العالمي وصلت إلى 185 مليار دولار في عام 2011 وحده.
ولا تزال أهمية النفط واضحة في حياتنا اليومية، فهو عنصر أساسي في وسائل النقل، والبناء، والزراعة، والصحة، وغيرها من القطاعات الحيوية. ومن هنا، فإن استقرار السوق ليس مجرد هدف اقتصادي، بل ضرورة اجتماعية وتنموية.
اليوم، تضم أوبك 12 دولة عضواً، وتحظى باعتراف واسع في المجتمع الدولي، وقد تم تسجيلها رسميًا في الأمم المتحدة منذ عام 1962. كما طورت المنظمة على مدار السنوات حوارات دولية مع كبار المستهلكين والمنتجين خارج أوبك، وشاركت في جميع مؤتمرات المناخ (COP) منذ انطلاقها قبل أكثر من ثلاثين عامًا.
وقد تعززت مكانة أوبك أكثر في عام 2016، عندما أطلقت “إعلان التعاون” مع عدد من المنتجين غير الأعضاء، فيما يُعرف بـ”أوبك بلس”، وهو تحالف كان له دور حاسم في مواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19 على الصناعة النفطية والاقتصاد العالمي.
وبالنظر إلى المستقبل، تشير توقعات أوبك في تقرير “آفاق النفط العالمي 2025” إلى أن الطلب على النفط سيصل إلى نحو 123 مليون برميل يوميًا بحلول عام 2050، مدفوعًا بالنمو السكاني والاقتصادي العالمي. ومن هنا، فإن أمن الطاقة للجميع لا يمكن تصوره دون النفط.
وفي ظل استمرار معاناة مليارات البشر من فقر الطاقة، فإن التحدي يكمن في تحقيق هذا النمو بطريقة مستدامة، من خلال نهج شامل يشمل جميع مصادر الطاقة والتقنيات، ويراعي التوازن بين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والبيئي.
كما في عام 1960، تواصل أوبك التزامها بالواقعية والحكمة في مواجهة تحديات الطاقة، مع الحفاظ على استقرار السوق كأولوية، بينما نرسم مسارات مستقبلية للطاقة تخدم شعوب العالم كافة.
وفي الذكرى الخامسة والستين لتأسيس المنظمة، أتوجه بأسمى آيات الشكر والتقدير إلى جميع الدول الأعضاء، وقادتها الكرام، والمسؤولين وموظفي أوبك، السابقين والحاليين، الذين ساهموا في بناء هذا الصرح العالمي.
لقد كانت أوبك، وستظل، مصدرًا للاستقرار، وعاملاً محوريًا في مشهد الطاقة العالمي، وصوتًا يذكّر العالم بأهمية النفط ومشتقاته لعقود قادمة.
وفيما نحتفل بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس المنظمة، ونستعرض إنجازاتها ونجاحاتها، فإننا نتطلع إلى مستقبل تواصل فيه أوبك أداء دورها الحيوي، وتبقى ركيزة أساسية في النظام الطاقي العالمي، ليس فقط للسنوات القادمة، بل لعقود طويلة قادمة.