يتعامل المستثمرون مع سبتمبر باعتباره محطة مفصلية، إذ يمكن لأي قرار بشأن الفائدة أن يعيد رسم ملامح الدورة الاقتصادية المقبلة، سواء عبر تهدئة الضغوط التضخمية أو عبر المخاطرة بزيادة زخم الأسعار. وفي هذا الإطار، تتحرك البنوك العالمية وشركات الاستثمار لإعادة تقييم استراتيجياتها تحسباً للخطوة المرتقبة.
يعكس الجدل الدائر حول القرار المرتقب حالة من الانقسام بين من يرى في الخفض استجابة طبيعية لمخاطر تباطؤ النمو، ومن يحذر من أن التسرع قد يقوض جهود السيطرة على التضخم.
وبين هذا وذاك، يبقى اجتماع سبتمبر تحت المجهر بوصفه حدثاً قد يحدد مسار السياسة النقدية الأميركية لسنوات مقبلة.
خطأ الفيدرالي
في هذا السياق، يرى بنك أوف أميركا أن خفض أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي في اجتماعه المقبل في وقت لاحق من هذا الشهر “سيكون خطوة خاطئة”.
ووفق المذكرة التي نقلتها شبكة “سي إن بي سي” الأميركية، عن كلاوديو إيريجوين، الخبير الاقتصادي العالمي في البنك، فإن “خفض أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي في سبتمبر غير مبرر في ضوء البيانات المتاحة”.
ويشير إيريجوين إلى ما يراه “تحولاً حمائمياً” من رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول في خطابه خلال ندوة للبنوك المركزية في جاكسون هول، وايومنغ، أواخر أغسطس. لكن الخبير الاقتصادي أشار إلى وجود عدة أسباب تدفع للاعتقاد بأن التحول إلى سياسة نقدية أكثر مرونة ليس الخطوة الصحيحة.
ويضيف: “التسرع في خفض أسعار الفائدة قد يتحول إلى خطأ في السياسة”، مسلطاً الضوء على “تباطؤ مدفوع بالعرض في سوق العمل”، ما يعني انخفاض عدد الداخلين إلى الاقتصاد بدلاً من التباطؤ الناجم عن انخفاض الطلب على العمالة، إلى جانب ”معدل البطالة المستقر الذي يشير إلى تراخي محدود”.
وفي الوقت نفسه، يظل التضخم “فوق الهدف”، إذ تقدر بنك أوف أميركا أن الاستهلاك الشخصي الأساسي سيبلغ ذروته عند 3.3 بالمئة هذا العام وسيظل ثابتا فوق 3 بالمئة في النصف الأول من عام 2026، وأن توقعات المستهلكين للتضخم في المستقبل ستظل “متقلبة”.
ويلفت الخبير الاقتصادي إلى أن الضغط السياسي المتزايد عاملٌ آخر قد يُؤدي إلى خطأ في السياسة. وقد انتقد الرئيس دونالد ترامب علناً البنك المركزي – وباول تحديدًا – لما اعتبره تأخيراً غير ضروري في خفض أسعار الفائدة.
ويقر إيريجوين بصعوبة تنفيذ مهمة الاحتياطي الفيدرالي المزدوجة، المتمثلة في تعزيز التوظيف المرتفع واستقرار التضخم، في بيئات تشهد حتى ركوداً تضخمياً طفيفاً، أو فترات من التضخم المستمر وتباطؤ النمو. لكنه يشير إلى أن خفض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة ودفع التضخم إلى ذروته قرب نهاية العام يبدو أكثر خطورة من الانتظار طويلاً ورؤية سوق العمل تضعف نتيجةً لإبقاء أسعار الفائدة كما هي.
جدل واسع
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets جو يرق، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- ثمة جدل واسع حول توجه الاحتياطي الفيدرالي لخفض الفائدة، إذ يعتبر بعض الاقتصاديين وكذلك بعض المؤسسات المالية، مثل بنك أوف أميركا، أن هذه الخطوة قد تكون خطأ كبيراً في ظل استمرار الضغوط التضخمية.
- “خفض الفائدة بربع نقطة مئوية ليس خطأ جوهرياً في تقديري، خاصة وأن مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي بلغ 2.9 بالمئة، ومعدل الفائدة ما زال ضمن مستويات مقيدة بين 4.25 بالمئة و4.5 بالمئة”.
- بالتالي نحن أمام أرقام تضخم ما زالت مقبولة نسبياً عند حدود 3 بالمئة.. الأهم الآن هو انتظار بيانات سوق العمل، وتحديداً الوظائف غير الزراعية، التي ستعطي تصوراً أوضح لاتجاه الفيدرالي خلال الفترة المقبلة.
ويوضح أن الفيدرالي تمسك بتشديد السياسة النقدية لأشهر، وبالتالي أي خفض الآن يمكن أن يخفف من الضغوط السياسية، خصوصاً من الرئيس ترامب، ويمنح البنك المركزي فرصة لتقييم الأوضاع الاقتصادية بهدوء قبل اجتماع أكتوبر وما بعده. لذلك يعتقد يرق أن هذه الخطوة، إذا تمت، ستكون مبررة ومرحّب بها.
مسار خفض الفائدة
وتتوقع غالبية المؤسسات المالية خفض أسعار الفائدة في سبتمبر من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، لا سيما مع تغير نبرة جيروم باول تجاه مخاطر سوق العمل خلال ندوة جاكسون هول.
وتشير مورغان ستانلي إلى أن نبرة باول تمثل انحرافاً عن تأكيده السابق على استمرار التضخم وانخفاض البطالة، مما يشير إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يتحرك بشكل استباقي لإدارة المخاطر السلبية في سوق العمل، وفق ما نقلته “رويترز”.
وتتوقع مورغان ستانلي الآن خفض أسعار الفائدة مرتين بواقع 25 نقطة أساس هذا العام، واحدة في سبتمبر والأخرى في ديسمبر، تليها تخفيضات ربع سنوية بواقع 25 نقطة أساس حتى عام 2026، ليصل سعر الفائدة القياسي إلى ما بين 2.75 بالمئة و 3 بالمئة.
ويمثل ذلك تحولا عن وجهة النظر السابقة التي أشارت إلى أن البنك المركزي سيبقى على سعر الفائدة دون تغيير حتى مارس 2026 ثم يخفضها بشكل أكثر قوة بعد ذلك.
أثارت تصريحات باول الأخيرة موجة من تعديلات التوقعات في المؤسسات المالية وشركات الوساطة، حيث توقعت بنوك باركليز وبي إن بي باريبا ودويتشه بنك خفضاً للفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في سبتمبر.
يعكس التغيير في التوقعات ما أطلق عليه خبراء الاقتصاد تحولاً في “وظيفة رد الفعل” لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي، حيث يبدو باول الآن أكثر حساسية لتدهور سوق العمل مقارنة بالماضي.
خطأ محتمل
من جانبه، يرى خبير أسواق المال، محمد سعيد، لدى حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة خلال سبتمبر الجاري سيكون بمثابة “خطأ سياسي” وأكبر خطأ غير مبرر في ضوء المعطيات الاقتصادية الحالية.
ويضيف:
- هذا القرار غير مبرر في الوقت الراهن، مع استمرار معدلات التضخم فوق المستهدف وعدم وجود تراجع حقيقي في سوق العمل.
- يشار إلى التباطؤ الحالي في نمو الوظائف والذي يعود إلى انخفاض أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وليس إلى ضعف الطلب على العمالة، في حين يظل معدل البطالة مستقراً من دون مؤشرات على فجوة عمالية كبيرة.
- بيانات الاقتصاد الأميركي تشير إلى استمرار النمو والإنفاق الاستهلاكي خلال الفترة المقبلة، ما يجعل خفض الفائدة قبل اتضاح معالم تباطؤ التضخم أو ارتفاع البطالة خطوة محفوفة بالمخاطر، وقد يُنظر إليها كخطأ سياسي فادح ينعكس سلباً على الأسواق.
ويتابع سعيد قائلاً: “الفائدة يتعين أن تبقى مستقرة حتى نهاية عام 2025، ما لم تظهر بيانات مفاجئة تكشف عن هبوط حاد في سوق العمل أو تراجع كبير في معدلات التضخم”، مؤكداً أن أي خفض استباقي للفائدة في ظل هذه الظروف سيؤدي إلى فقدان الفيدرالي لجزء من مصداقيته، وقد يسرّع التضخم دون مبرر.
ويختتم خبير أسواق المال تصريحاته بالتأكيد على أن التسرع في خفض أسعار الفائدة إذا جاء بدافع الضغوط السياسية، بعيداً عن البيانات الاقتصادية الصلبة، فسيُعد خطأً حقيقياً في السياسة النقدية، وسيُفسر كاستجابة لضغوط سياسية، مما قد يضر بمصداقية الفيدرالي ويضع علامات استفهام حول استقلاليته.